اعتدل أبو داحم في جلسته بعد أن كان متكئا، وأخذ الريموت كنترول من صديقه كي يمنعه من تغيير القناة التي يحبها، ثم بدأ يعلق على ما يرى بصوت عال: "مكينة شبح" الله يخارج من التاهو.. بقراطيسها.." من يحسن الظن بهذه التعليقات سوف يظنه يشاهد قناة (أوتو ون) لكنه كان يتابع مسلسلاً في قناة أخرى!
أبو داحم لم يسبق له أن أضاف كلمة (زينة) لغير المرأة والسيارة: زينة المرأة, زينة السيارة. يتوجه أبو داحم لشارع الغرابي لتركيب برقع لسيارته الأكورد بينما يردد مع عيسى الأحسائي: "صاحبي يلبس البرقع ما هي عادة له"، تؤخذ السيارة لمحلات الزينة والإكسسوارات: أنوار الزينون، تظليل النوافذ، تلميع البودي.. وتؤخذ المرأة للمشاغل: رسم الكحل، تركيب الرموش، معجون الأساس.. إلخ. ليست محلات الزينة وحسب بل الورش وحتى التشليح إذ يمازح أبو داحم جدته وهو يأخذها للمستشفى قائلا: "يا أمي أنت ما تحتاجين سمكري، بآخذك للتشليح" وتضحك الجدة مجاملة وقد فاتتها النكتة.
كان أول قرار اتخذه أبو داحم بمجرد حصوله على الوظيفة شراء سيارة جديدة بقرض ينهب ثلث راتبه كل شهر لخمس سنوات والاستغناء عن سيارته القديمة، "وين سيارتك القديمة يا بوداحم ؟" ويردّ دون تفكير: "طلقتها" فالسيارة عنده ليست مجرد وسيلة مواصلات، إنها رفيقة درب "تخاويه على الحلوة والمرة"، بل قد يؤرخ حياته بالسيارات التي عاشرها: "أيام الصابونة.. قبل الفورد.."، أبو داحم سبق له النوم في حوض "الهايلكس"، في ظلمة الليل وهدوء الصحراء متدثرا بفروته وقد اتخذ وضعية الجنين شاعرا بالأمان والسكينة في حضن الهايلكس. وسبق له النوم أيضا بجانب "الكابريس" على الخط قبل الطائف بخمسين كيلو إذ لم يكن في جيبه ما يكفي لأجرة غرفة في السيل الكبير فنام بجانب سيارته مغمضا عينا واحدة فقط متأهبا للدفاع عن سيارته إن تطلب الأمر. وسبق له النوم أيضا داخل كل سياراته: حيث يغط في نوم لا يخلو من المنغصات. لذا لا يمكن مقارنة السيارة عنده بالقطار أو الطائرة أو أي وسيلة مواصلات أخرى بقدر ما يمكن مقارنتها بالمرأة.
تتطلب قيادة السيارة مؤهلات خاصة. حيث يرى أبو داحم أنه ليس كل من أمسك الطارة يقال عنه سواق. القيادة تقليد رجولي مليء بالصراعات والمنافسة، إنها فعل صراعي الغلبة فيه للأقوى: أفضلية السير ليست لمن بداخل الدوار بل لصاحب القلب الأقوى والتركيز الأعلى. وأبو داحم لديه ولع خاص بالمساقط والتجاوز من اليمين واقتحام الدوارات والخروج من الطريق الرئيسي لطريق الخدمة بتهور والتقفيل على الآخرين أمام المطاعم والبنوك.. وحين يتجرأ أحدهم على الاعتراض يفتح أبو داحم الشباك بسرعة ويبصق في اتجاه المعترض صائحا به: "يالمرة"!.
وحين يخرج أبو داحم من حدود المملكة لأي بلد كان ويرى "المرة" تقود السيارة يضحك باستغراب ومرح وكـأن قيادتهن للسيارات فعالية سياحية وضعت للترفيه عنه. ثم يعود ليجلس باسترخاء في بهو الفندق محدقا في العابرات، إما بنظرات والهة خدرة كأنه في توكيلات الجزيرة، أو قد يصحصح قليلا ويتفحصهن بنظرات حذرة كأنه في معارض النسيم.
وفي الحملات الإعلانية للشركات المستوردة للسيارات تصبح السيارة امرأة. ولم لا مادام هذا ما يريده أبو داحم. تلحّ هذه الإعلانات على جعل العلاقة بالمرأة مشابهة للعلاقة بالسيارة عن طريق التلاعب بالألفاظ وتوظيف المجاز، يختفي مسمّى السيارة ويحلّ محلّها ضمير الغائبة ويحلو السرد: إنها مذهلة، جذابة.
لهذا كلّه – ولأكثر منه في الحقيقة – فإن الحديث عن قيادة المرأة للسيارة يستفز أبو داحم، ويثير لديه الكثير من المشاعر: الدهشة، الاستنكار، الغضب، السخرية..., لكن الشعور الأكثر هيمنة هو "الاشمئزاز". حين تثار القضية أمامه يتغيّر لونه وتظهر الكراهة في وجهه، يكاد لا يبلع ريقه من الشعور بالغثيان، ثم يتمالك نفسه ليرمي تعليقا حادا سريعا لا يخلو من قذارة يختم بها السالفة وينتقل إلى موضوع آخر لعله ينسى. مجرد الحديث عن الموضوع يثير القرف، فالمرأة في نظره سيارة والسيارة امرأة فكيف (...) إنه فعل مشين تأباه الفطرة السليمة. ومهما حاولت تلكم النسوة الـ... عرض القضية ومحاولة الإقناع بأسلوب بسيط ومباشر وبجمل قصيرة وواضحة يظل أبو داحم رافضا استقبال أي جملة ينطقن بها ناهيكم عن الحوار فمصدر التشويش قوي ولا يصله إلا صدى أفكاره الخاصة.
هذه إحدى الزوايا المحتملة لرؤية مشكلة قيادة المرأة للسيارة من خلالها. حيث يفشل الطرفان في التوصل لمعنى مشترك للمفهوم. فريق يرى السيارة وسيلة للانتقال من مكان إلى مكان آخر، وفريق تحظى السيارة عنده بوصف أكثر حميمية وتلبي الكثير من الاحتياجات العاطفية والنفسية.
ولكن ما الذي يصل لعقله من هذا كله؟ ما الذي يفهمه أبو داحم من هذه العبارات؟
في الواقع أنه لا يريد أن يفهم منها أي شيء نهائيا، لأنه لا يستطيع أن يتخيل ولو للحظة كيف ستكون ردة فعله لو أن امرأة تقود الشاص تجاوزته من اليمين عصرية السبت قبل الجسر المعلق بقليل!