ها هي اللحظات العصيبة التي تجتمع لها نساء القرية، ويعم فيها الصمت، وسط تساؤلات أحمد التي لا يجد لها إجابات سوى أن يُطلب منه أن يذهب للعب بعيدا، فهناك طفل سيشرق على الدنيا في هذه اللحظة. الصمت هنا يعم المكان إلا من تأوهات وصراخ وتعاويذ وهمهمات تستمر لساعات يصدح بعدها صوت يشرق على الحياة وسط بشر وأرواح مبتهجة تلتقطه وتغسله وتسمي عليه وتلفه في ثيابه ليدخل أحمد مبتهجا بالضيف الجديد الذي يأخذ مكانه، لتبدأ وفود القرية ترحب به بالبنادق تارة وبالهدايا القيمة تارة أخرى، وتجتمع القرية نساؤها ورجالها أياما ذات عدد في حضور بهجة هذا الضيف الجديد.
تبدأ الخالات والأقارب الاعتناء به منذ اللحظات الأولى بتغسيله وتحميته.. بتقليبه عاريا على بخور يتعالى من بين يديه ومن خلفه يستنشقه الطفل، وربما عطس من الدخان المتصاعد لخياشيمه وسط ضحكات الجميع، ويعاد نظيفا محمما إلى حضن أمه، ويصنعون بالطبع مكانا لمرقده يتدلى من كرسي أمه يسمى (هندولا).
وإذا ما اشتكى من ألم أو مغص فعلاجه ملعقة من (ماء غريب) الذي يجلبه والده من السوق.. وتمضي الأيام ماتعة بهذا الضيف الذي تحتفي به القرية جميعها أياما قبل أن يعود الجميع إلى مزاولة حياتهم وأعمالهم. وكانت تلك هي المراسم الطبيعية للولادة.
لم يكن أحد بالطبع يطمع لأكثر من ذلك، ولا يتذكر ماهية اللحظة المفصلية التي بدأت فيها نساء القرية تفكر بالولادة خارج أسوار المنزل، لكنه يتذكر جيدا تلك المعاناة التي كانت تعانيها إحداهن وهي تقطع في لحظات ولادتها الأخيرة واديا لعينا متعرجا ومليئا بالحجارة التي تجعل السيارة ترج وترج وربما وضعت كل ذات حمل حملها في وادي (الحازب).
كان حلم أحمد ورفاقه وما زال أن يوجد للقرية مستشفى في المدينة القريبة يلبي حاجتها، يتذكر أنه سأل والده وأخبره منذ عشرات السنين أن هناك متابعة حثيثة من رجال القرية ومن وجهاء القرية لإيجاد مستشفى، وسيكون قريبا ماثلا يحل مشكلة القرية ومرضاها، كان يعتقد بعقله الصغير أن الأمر صدق وأنه عما قريب سيبصره، لكنه كبر وكلما كبر تضاءل الحلم أكثر.
عبدالرحمن المحسني
شاعر وناقد