نقوم بالثورات لننتصر لإنسانيتنا ليس إلا. لحظات لا تنسى ولن تنسى من ذاكرتنا وذاكرة الإنسانية كلها ازدحمت بالأحلام التي عشناها لحظة تلو الأخرى وعاشتها مصر وهي تصنع ثورتها على نظام جثم على أنفاسها لسنوات، بل لعقود لتذوب اللحظات أخيرا وتنتهي الثورة إلى مجرد صراع على السلطة أخذ معه كل الأحلام. الثورات لا تساوم ولا توائم ولا تنحاز إلا لمبادئها، أما السياسة فهي لعبة المواءمات والمساومات، وكانت ذروتها أول قرار فعلي اتخذه الرئيس الجديد بالالتفاف على حكم محكمتنا العليا أعلى السلطات القضائية المصرية بدعوة البرلمان المنحل بقوة القضاء والقانون للانعقاد، ثم اضطراره للعودة عن قراره. ويبدأ الرئيس برنامجه المئوي بدعوته الناس للخروج لجمع القمامة بأنفسهم دون أن يخبرهم حتى أين سيضعونها بعد تمام الكنس! ويظهر مشروع النهضة الكبير وهما أكبر يعود بنا لعصور مظلمة قولا وعملا، مظلمة بانقطاع الكهرباء والماء عن كل الأحياء بطول مصر وعرضها. يذهب الرئيس الجديد لميدان التحرير، وتمر أيام ثقال طوال إلى أن تشكلت الوزارة الجديدة، ورغم تأكيداته في الميدان على أنه ابن ثورة 25 يناير، إلا أن الوزارة التي أتى بها الرئيس ليست إلا خلطة إخوانية على حزب وطني تستهل عملها بتلويحات من وزارتي الاستثمار والداخلية بالعودة للطوارئ والتهديد بغلق الفضائيات التي تنشر "الشائعات المغرضة".
وزير الاستثمار الجديد هو ذاته الذي ـ وفي عهد مبارك ـ أخذ على عاتقه مهمة غلق القنوات الدينية نفاذا لتعليمات وزير إعلامه آنذاك أنس الفقي. وزير الداخلية الجديد هو المسؤول عن الأمن العام في القاهرة أيام مبارك والذي اقترن اسمه بالموقعة المعروفة إعلاميا باسم موقعة الجمل التي وقعت في يوم الثاني من فبراير 2011. مضحكات مبكيات تترى وتتوالى عندما يكرم الرئيس "الثوري" رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري بل ويعينه مستشارا له. هل يمكننا حقا أن نقول إن هناك التزاما إخوانيا أو رئاسيا بمبادئ الثورة؟ أم أنها كالعادة مجرد لعبة مصالح واقتسام للكعكة التي دانت بفضل تلك الثورة؟ من الآخر أقول إنه لم يكن هناك قرار أو حتى توجه إلا وكان صادما أو مصطدما أو يؤدي لتصادم، باستثناء ما تعلق منها بالنظام القديم طبعا والمؤسسة العسكرية خصوصا.. الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء الجديد كان مدير مكتب وزير الري منذ عام 1999 ووزيرها في عهد حكومتي عصام شرف والجنزوري لينتهي رئيسا لوزراء الثورة في احتفاء إخواني، ويبقى المشير الكبير طنطاوي وزيرا للدفاع بصلاحيات إضافية. وزير الداخلية مفتش الأمن العام في عهد مبارك ومفتش مباحث الوزارة ومساعد رئيس قطاع الأمن العام ثم وكيل مباحث الوزارة ثم إدارة تنفيذ الأحكام ثم مدير أمن جنوب سيناء ثم أسيوط ثم مساعدا لوزير الداخلية منصور العيسوي ثم محمد إبراهيم، هذه هي حقا إعادة الهيكلة التي طالما حلمنا بها ورضينا أن ندفع ثمنا لها دما مصريا طاهرا، وزير الدولة للتنمية المحلية هو اللواء مهندس أحمد زكي عابدين، محافظ كفر الشيخ في عهد مبارك وأحد كبار مداحيه. وزير الكهرباء والطاقة عضو في الحزب الوطني، وزير الصحة كان مساعدا لوزير مبارك حاتم الجبلي، وشريكه أيضا في كايرو سكان،. وزير البترول كان عضوا في أمانة سياسات الحزب الوطني. وزير المالية كان مساعدا لوزير مالية مبارك، شأنه شأن وزير السياحة، ووزير الطيران الذي عمل مساعدا للفريق أحمد شفيق، أشك في أن الأخير هو من فاز برئاسة الجمهورية والباقي مجرد خطأ بريء في الأسماء ولكن، هذه هي وزارة الثورة التي تجسد أحلامنا، أحلام الثورة التي عشناها لحظات هي الأغلى من عمرنا، وكأن شباب هذا البلد على موعد مع الإحباط إلا للحظات تمر سراعا.
ولكن، كثيرون يظنون أن هذه هي نهاية الثورة، والحقيقة أنه ولكل الحروف والكلمات التي مضت فالثورة ستستمر، ذلك أننا عرفنا كيف يمكن أن نتحول إلى بشر حقيقي بعد أن كنا مجرد أرقام على أوراق في إحصائيات، هناك أمور لن تتغير أتى من أتى وذهب من ذهب، جيل جديد، روح جديدة بعثت لا تعرف الخوف ولكن تعرف كيف تغضب لنفسها وكيف تتكلم بأعلى الصوت إذا ما وجب الكلام وأيا كانت العواقب، وما كلماتي هذه إلا نموذج تطبيقي لدرس تعلمته وأتعلمه من هؤلاء الذين هم أصغر مني سنا وأكثر شجاعة، والزمن في صالح هؤلاء وحدهم، ويبقى الحلم بمصر العظيمة حلما حيا بريئا نقيا واضحا كالشمس، ويبقى رغم كل شيء حقيقة أن من يرتضي مقاعد السلطة هذه الأيام ويسعى إليها بكل ما ملكت نفسه حقا كان أو غير ذلك، فإنما هو يسعى لمقعد المحاسبة والحساب، ولن يرحم التاريخ أحدا، ذلك أنه عندما يتولى الحساب هؤلاء الحالمون الذين أسقطوا نظاما حسبنا جميعا أنه لا يسقط، فإن الحساب سوف يكون عسيرا.
وأعرج على وضعي شخصيا لأثبت كل مافات كمواطنة عارضت نظام مبارك وابتعدت عن قراءة نشراتهم الكاذبة ثم قررت العودة إلى مبنى التلفزيون الحكومي أملا في التغيير من الداخل بعد ثو رة 25 يناير فإذا بالمجلس العسكري يزيحني عن قراءة النشرات...مجرد قراءة النشرات...بعد نشرتين وحيدتين...نقولها بالمصري: "نشرتين عُمْي".. مع الاعتذار لأصدقائي المكفوفين فهم بكفاحهم نورنا عند الانقطاع وبصيرتنا في تلك اللحظات المظلمة.. لكنها الثورة فلا تراجع ولا استسلام فأنطلق في القطر المصري لأنشر الثورة وأهدافها من خلال حملة رئاسية ليس المجال للحديث عنها الآن.. ثم أجلس في بيتنا بلا عمل حتي تأتيني مكالمة قبل موعد الإفطار بساعات، ورمضان كريم عليكم جميعا، لتخبرني علية من السكرتارية بأني سأنزل على جدول النشرات بدءا من بعد عيد الفطر، فأقول لنفسي بمنتهى الصبر والتحمل والرضا: لا بأس لقد عدنا لعام 2006.."والثورة متنيلة بستين نيلة مستمرة".
بثينة كامل
إعلامية مصرية