يروي أحمد عن تلك اللحظات الأولى التي تعرف فيها على التقنية وتواصل فيها مع الإعلام، إذ يقول: كنت - بطبيعة الحال - كغيري من أبناء جيلي فتحنا أعيننا على راديو ومسجل، الراديو كان أنيس البيت، وربما تأبطه بعضهم ليؤنس غرامياته وليكون صديقه وهو يحمي البلاد "الزراعة" من الطير.
أما المسجل فقد كان منه مسجلات السيارات على قلة تلك السيارات أصلا، إلا أن الشباب العشاق آنذاك ممن كانوا يمتلكون سيارات ويتفاخرون بها وينقلون أهل القرية من وإلى (سوق الاثنين)، وربما ذهبوا بهم بعيدا إلى محايل! أقول كانوا لا يجدون غضاضة ولا إنكارا من أن يستمعوا لأغان بعضها مثيرة للغرائز، ولم يكن أحد ينكر أصلا، بل ربما دفعتهم مراهقة بعضهم أن يمد سماعات مكبرة للصوت ليسمّع بأغانيه من يحب كرسائل ذات بعد سيميائي تشكل شفرة تواصل عشقي، وكان صوت الأغاني يرتفع من السيارات وهي تعبر (وادي لتين) صعودا وإيابا.
وفي الجانب الآخر كانت هناك مسجلات تأتي عادة كتقليد ثابت على (حمل) الزوجة، حيث كانوا يتفاخرون بمن يأتي بمسجل سماعتين، وهذا الجهاز لكبره يحل في البيت لا يخرج إلا في أوقات بسيطة إلى أماكن قريبة (طلة العصر) أو نزهة برية، حيث كانوا يسمعون قليلا من القرآن وكثيرا من الأغاني، وربما بعض المسلسلات القليلة التي كانت تقدم، ولا ينسى أحمد أن يتذكر مسلسل رمضان (أم حديجان) الذي كان يقدم كمسلسلات تمثيلية كل ليلة وتعتكف له القرية كاملة لاستماعه والضحك على تلك الأدوار التي يقدمها من عرفنا فيما بعد أنه رجل واحد اسمه عبدالعزيز الهزاع.
وحينما وصلنا لمرحلة الدراسة المتوسطة واتصلنا بالعالم الخارجي للقرية كنا نسمع من أقراننا عن وجود جهاز يسمى (التلفزيون) ويسميه البعض ـ تندرا ـ (أتلف العيون) الذي شهد عدة محاولات يائسة لجلبه للمنزل، وبعد محاولات كثيرة وافق أبي على أن يجلب لنا هذا الجهاز الذي ترى فيه الصوت والصورة وكأن الجن تحركهم.
لا أدري هل اشتراه والدي أم إنني دفعت براتب المعهد الكبير آنذاك (600) ريال واشتريناه.
وصل البيت، وسط حفاوة بالغة، حيث بدأنا رحلة المحاولة تلو المحاولة لكي نبصر الصورة، وبالطبع بعد أن رفعنا (الإريل) ذي الريش البيضاء والحمراء عاليا دون جدوى ورفعنا التلفاز هو الآخر عاليا، لنشاهده من الأرض وهو على طرف البيت، وعلى كل، بعد لأيٍ بدأت الصورة تتضح شيئا فشيئا، وتغيب حينما يحرك الهواء ذلك (الإريل) الذي أصبح علامة على القرية بعد فترة.
والصعوبة تكمن حينما كنا نريد أن نشاهد مباراة في العصر، حيث يسهم الضوء في تواري الصورة حتى ما تكاد تبين، لكنا كنا في شغف بالغ بهذا الجهاز لا نبرح عليه عاكفين منذ العاشرة صباحا بل من قبلها بقليل حتى لا يفوتنا السلام الملكي والعلم الأخضر يرفرف ثم قراءة القرآن بصوت زكي داغستاني، ليبدأ تتابع الفقرات ونحن نشاهد كل شيء وكل شيء يملؤنا حبورا ولا يقطع عنا المشاهدة إلا خفوت الصورة التي تتضاءل جنباتها حينما تبدأ البطارية تتفرغ ليحملها أحمد باتجاه السوق، ليعيدها بعد يومين أو ثلاثة ممتلئة وأرواحنا مبتهجة بعودها الأحمد.
عبدالرحمن المحسني - شاعر وناقد