•قد يكون الزحام الكبير في معرض الكتاب بالرياض مفهوماً بعض الشيء، كحالة نزاع سنوي، ما بين المجتمع من جهة، ومختلف الضاغطين من جهة أخرى. البعض يرى أن زحام معرض الرياض ليس سوى حالة تسوّق واستهلاك سعودية جديدة ومثيرة، مستبعداً أن يكون هذا النهم من باب الإقبال على المعرفة والقراءة. وبكل الأحوال وأيّاً كان التفسير فإن الكتاب ليس أول أسباب الزحام ولا النزاع في معرض الرياض للكتاب.

•في المرات التي شهدت فيها معرض الكتاب ببيروت مثلاً، لم يكن هناك أي زحام ولا نزاع من نوع حالتنا السعودية، نعم هناك زحام شديد، لكن الكتاب والفعالية الثقافية هي من تحضر أولاً، وهي التي تفسّر بدلالة مباشرة المعنى العميق والتاريخي لبيروت بوصفها مدينةً حاضنة لالتقاء الثقافات والتنوّع بكل أبعاده، حتى في المقاهي المكتظة بالمفكرين والشعراء والنقاشات والموسيقى والسياسة.. بيروت المشغولة بالحب والفن، بالمعرفة والحرب.. دوماً.

•لكن معرض الكتاب ببيروت هذا العام، والذي للتو أوصد أبوابه، كان الأكثر وحشةً وخلّواً من امتلائه الفذّ منذ سنوات، الامتلاء الآخر الذي لا يمكن أن تجد هذا النوع منه بالذات إلا في بيروت، ففي هذه السنة تجوب الممرات فلا تكاد تصادف إلا بضعة عابرين هنا وهناك، يمشون بتململ وعجلة، وكأن كل شيء في حال خسارة لم تترك معنىً ولا أحداً إلا طالته. سألت أحد الناشرين عن الأمر، فأجاب فوراً "خربوا لنا كل شي"، ولم أسأله ما الذي ومن غيّب أثمن ما لدى بيروت في هذا العام، لأن الإجابة كانت تفيض من كل ناحية، ليس في المعرض فقط، بل في العوز الذي لا حديث عن غيره في سيارات الأجرة، في المطاعم والفنادق التي أغلقت أبوابها، في الغضب والخوف والمخاوف مما يحدث وما سيحدث في الجارة السورية.

•وبالرغم من كل ما في هذا التحول التاريخي الذي تعيشه المنطقة، من الاضطرابات واحتماليات الموت المجانية، إلا أنه كان هناك مسافرون، مهما قل عددهم، من بلدان عديدة، لم يأتوا مدعوين ولا محاطين بزينة الضيافة، وإنما جاؤوا طوع إرادتهم وحلمهم، يقصدون بيروت مكاناً ومعرضاً. يقول الصحبة السابقون إن حياة الأمكنة تقاس بحياة من يهرب إلى الحياة فيها، لا بحياة الذين يعيشون فيها، فمن تراه يهرب إلينا، أعني أي نوع من البشر هم أولئك الذين يجدون في مكاننا حياةً لهم!.