الفنان القادم من جازان والمقيم بالرياض إبراهيم الخبراني مختلف، لأنه يُجبرك على أن تقف أمام كل لوحة من أعماله التشكيلية لتُمعن النظر؛ مرة، ثم تُعيد الكرة كرتين تباعا، تاركا لك فرصة التحدث مع الألوان بعيدا عن زمن بات يقضم الفن كالبسكويت بعد شطيرة من الثقافة السريعة. إنه يسترسل معك في الخيال ليحكي شيئا من الدراما لتلك النسوة اللاتي لا تجدهن إلا في أعماله بطريقة تخصه، هكذا شعرتُ منذ الوهلة الأولى أمام أعماله في معرضه "تجاوز" الذي أقامه في مدينة جدة، وما يزال مفتوح الأبواب في صالة العالمية.
لقد أعادني لتلك اللحظة التي يجبرك فيها الفن على استحضار أقوال الفلاسفة عن المرأة، والتي يبدو أنها استعصت على أكثرهم، ولا أعلم كيف استحضرتُ جملة الفيلسوف نيتشة الألماني حين قال: "المرأة فخ نصبته الطبيعة"! فهل كانت فخا نصبه لنا الخبراني في لوحات؟ سؤال ينفتح عبر ذلك التجريد اللوني الذي تراها فيه ولا تراها، فغابت وحضرت عبر ريشة الخبراني ضمن ذلك النسيج اللوني المتناغم مع كل شيء، إلا هي، يفصلها عنه خط بصري رقيق.
وكأني أمام أعمال أرى المرأة قادمة من سرب "الحريم" الذي شكله الوعي الاجتماعي في سياق ذكوري نسي أنها إنسان وتذكر أنها "منكر"، ترى نسوة يمشين لكنهن متجمدات، بلا ملامح، بلا جسد، بلا صوت، فقط العباءة من تتوغل بهن تجاه الحضور، فيما تسمع همسا لأمنيات يثرثرن بها عبر "حلق أذنها" الذي ظهر خلسة من هنا، ونقش حناء يد إحداهن رمت بها هناك، فيما عرض اللوحة يُدهشك بتناغم درجات الألوان المستخدمة مع ضربة الريشة بما يوحي أن الخبراني لا يتعامل مع لون، بل كائن حي يبنيه من مُتخيل يتشكل في كل عمل بما لا يشبه الآخر، رغم ذات النسوة؛ اللاتي ما أن تلتقط وجودهن إلا ويغبن عنك. سألته: "لماذا هذا اللون الأحمر يحضر معهن ولا يبدو شاذا؟! أجانبي: "ربما المعاناة حين تواريه المرأة لتتصالح معه ويأبى الغياب".
الخبراني لم أعرفه عبر معرضه هذا، لقد أكرمني بعمل تشكيلي احتل صورة غلاف ديواني الأخير "حبة عنب"، وقبل ذلك عرفته عن قرب كأخ وزميل ثقافة صاحب ذوق أدبي منذ بضع سنوات حين كنتُ في رحلة عمل إلى البحرين مع مجموعة رائعة من المبدعين التشكيليين السعوديين.. إنه يتسم بأخلاق فنان مرهفة، عصامي يؤمن قوت أسرته الصغيرة، ويحفر بريشته الصخر لأجل فنه الذي أخلص له إلى درجة شغفه بتعليم الآخرين أسرار الريشة عبر تدريب الشباب في ورش عمل فنية تُطلق ما فيهم من إبداع، ولأنه كذلك فإنه يجبرك على التقاط الدهشة في لوحاته، ففنان دون ثقافة ولا عطاء لا يمكن أن يكون إلا مُقلداً مجرداً، لهذا جاءت لوحاته عميقة ومتينة، واستطاع في "تجاوز" تقديم تشكيلي سعودي يتمتع ببصمة فريدة تخصه وحده.