لو لم يكن من حسنات الكاتب الساخر محمد السحيمي والكاتب الفنان سامي الفليح إلا أن يكون ردي عليهما حافزاً ودافعاً لقامة أكاديمية وأدبية وعربية رفيعة للتداخل والرد على كلامي، وتفتيته ثم تفنيده، وأعني هنا الأستاذ الدكتور أحمد الضبيب رئيس تحرير مجلة العرب، ويكفي جداً أن يكون أحمد الضبيب، كما يكفي أن تكون مجلة العرب لأرفع الراية البيضاء مسلماً ومستسلماً.

إننا كما ننزل عند رأي الفقهاء والعلماء الشرعيين ونتوقف مسلمين بفتاواهم فإننا بنفس الحال مدعوون للتسليم بفتوى العالم اللغوي المحيط، والأستاذ الدكتور أحمد الضبيب غني عن التعريف فهو عالم في بحور الكلم وما يسيله القلم.

لكنني إلى ذلك كله أود أن أوضح لأستاذي الضبيب وأزيده تطمينا في أنني من العاضين بنواجذهم على لغتنا الفصحى، أنشب أظفاري في تلابيبها حتى وهي تتغنج وتتدلل بألاعيبها وطاقاتها الفذة في التلون والتحول والتمرد والتجدد، وهذا ما حاولت الوصول إليه في مقالتي التي أثارت أستاذنا الضبيب.

ربما أن التعبير قد خانني، أو أنه بسبب الاستعجال في الكتابة الملتزمة، لكنني كرست مقالتي ووجهة نظري تلك في التخفيف من الصرامة الظاهرة على وجوه مذيعي نشراتنا الإخبارية على نحو جعلني أصف سلوكهم بالتخشب، وأدائهم المتكلف مثل من يرش جسمه ورسمه بالنشا، وهذا هو ما اتفق فيه معي الدكتور الضبيب في تعقيبه حين يقول: (ولستُ أشك في أن مخاطبة الناس بلغة سهلة ميسرة دون تقعر أو تكلف – كما قال الكاتب - هو أمر نتفق عليه، بل هو من أوليات الإعلام الناجح) ثم يرى الدكتور الضبيب أن هذه المتطلبات تتحقق (باختيار الألفاظ المناسبة والتعبيرات المعهودة في الأساليب الجاذبة وهي كثيرة في لغتنا الفصحى).

كان العنصر الرئيس في مقالي هو التماهي مع الجيل الجديد من الشباب الذي ينجذب إلى عدم التكلف، أو ما صار يعرف بالكاجوال CASUAL وهو كل ما يتسم بالبساطة والسلاسة، والواقع أن قنواتنا المحلية تجد انصرافاً عريضاً من الشباب الذين صاروا نهباً لما امتلاْ به الفضاء من قنوات (مليحة) و(مريحة)، وكنت أود أن يتخلص مذيعونا من هذا التقعر في الإلقاء وأن يخففوا ولو قليلاً من تشكيل ورسم الكلمات حتى تكون لغتهم منحازة نسبياً إلى لغة البساطة، بدلاً من العفاطة التي ذكرتها في مقالي السابق.

ثم إن على أستاذنا الدكتور أحمد الضبيب أن يطمئن على ميولاتي وانحيازاتي اللغوية، وأن يضع ـ كما يقال ـ في بطنه (بطيخة صيفي) لعلمه أنني تربيت في حضن سيدي الوالد ـ أطال الله في عمره ـ والذي يقف في مقدمة المدافعين المنافحين عن اللغة العربية الذين لا تلين لهم قناة (حربية أو تلفزيونية!!) ولستُ في وارد ذكر المعارك والخصومات التي خاضها – يحفظه الله - في هذا السبيل، بل إن والدي يا دكتور أحمد ما زال يتلقط ويتسقط على أبنائه وأحفاده المفردات الهجينة أو الدخيلة ويصر على تعريب المتغرب أو تفصيح العامي من كلامنا، وسيدي الوالد وحضرتكم بقية كريمة ما زالت ترعى هذه المدللة الغنوج (لغتنا الجميلة) تبرونها وتقدمونها في المحافل والمجالس والمنتديات، لكنني الوجل من هذا التناهب الذي يحاصرها من الكلام المارج الدارج أجدني مدفوعاً لأوجه سؤالي لأستاذنا صاحب الضخامة الدكتور الضبيب عن: كيف ترى مستقبل هذه اللغة بعد رحيل حضانها من الرعيل الأول؟ وكيف نحميها من المد العامي الذي يغشى الناس في مهاجعهم ومضاجعهم الذي يتسلل عبر الشاشة أمام جيل يشاهد ويسمع أكثر مما يقرأ فلم يعد جثوٌ على الركب وتحلقٌ حول الألواح وتنفسٌ للطباشير!

بقي لي أن أشكر الأستاذ الدقيق أحمد الضبيب كما أشكر الصديق الأنيق الرقيق الحقيق بكل محبة الأستاذ حمد القاضي الذي كان أول المعقبين العاتبين، وهو الذي برده عليّ تسبب ربما في لفت نظر الدكتور الضبيب إلى مقالي فجاء هذا العتب، فلهما العتبى حتى الرضى.