ترفّق أيها المولى عليهم فإنّ الرفق بالجاني عتابُ
وعينُ المخطئين همُ وليسوا بأول معشرٍ خطئوا فتابوا
ردّدت أبيات المتنبي العظيم، وأنا أغادر غرفة الشيخ الوضيء خالد الراشد بسجن المباحث في الدمام الأربعاء الماضي، وقد غشيني الأمل لما رأيت منه من مخايل الاحتساب والصبر والمراجعة والوطنية الحقة والاعتراف بالخطأ.
كنت قد قرّرت ترك هذا الملف الحسّاس، والاكتفاء بالمقالات الأربع التي كتبتها عن سجون المباحث بالسعودية، وقد نالتني سهام الظنون من تلك الأعين المستريبة حيال ما كتبت، والله تعالى أعلم بما قدمت لأبنائي وإخوتي الموقوفين، بيد أن بعض الدعاة القريبين مني، والمباشرين ملفّ الأبناء هؤلاء، ألحّوا عليّ بمواصلة المسعى، وشدّ من أزري إخوة لي في (اثنينية) البسام، الذين طالبوني بعدم التوقف، طالما كان النفع للوطن وللموقوفين بالدرجة الأولى.
تواصلت مع المسؤولين الذين رحّبوا بي، وأنا أطلب زيارة سجن الدمام، وقد وضعت اسم الشيخ خالد الراشد في أول القائمة التي قررت زيارتها، لما أسمعه من أصدقاء لي بالمنطقة الشرقية، أثنوا على الرجل ونشاطه، ووقتما دلفت إلى غرفته، غمرني بابتسامته الوقورة، وجلست معه طويلاً، وكم فرحت بتلك النفسية (الحنبلية) وهو يقول:"والله لم أدع على أحد" ويكمل: "قلت لكل من زارني من هيئة حقوق الإنسان، بأنني أخطأت، وأعترف بذلك، ولكن تمنيت أن يُتجاوز عن هذا الخطأ لمواطن محبّ لبلده، وأنا الذي جبت المملكة من أقصاها لأقصاها، وغشيت الكليات العسكرية والمنتديات الشبابية لأحاضر وأخطب فيها".
لم أرَ في كل من زرته بتلك السجون من طلبة العلم، من هو في شفافية الشيخ الراشد وروحانيته، ورغم تأثره النفسي من الحكم الذي صدر عليه، إلا أنه كان متماسكاً وبروح عالية، وكان يردّد: "أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم، وأنا من كنت أناقش الفئة الضالة، وأدافع عن البلد، وأقسم بالله لأني أول الجنود ضد الإرهابيين في هذا الوطن، وأعترف بأن ما فعلته من جمع الأموال للعراق اجتهاد خاطئ مني، ولكني قمت بما قمت به بناء على فتوى، وأعترف بخطئي هنا، وخطئي في خطبتي".
ووقتما طرحت له ما يدور في (تويتر)، وأن ذلك مما يعرقل مساعي الفضلاء من الدعاة عند الدولة، لحلحلة قضية الموقوفين، قال لي: "أخي عبدالعزيز، لا تحمّلني ما يقوله ويفعله الآخرون، وعندي مبدأ أكرره: اترك الشيء لأجل أن أحبك، خير من ترك الشيء وأنا أهابك".
الحديث مع الشيخ مشوّق جداً، وذكر لي قصة شريط (آهات وبشائر من النيجر) ولم أنتبه للوقت الذي قضيته، بسبب حديثه الآسر، وخطابيته الإيمانية التي جعلتني أدعو له بالفرج، وقال لي قبل أن أغادر: "أتلقى هنا معاملة كريمة، ولم يقصر مدير السجن معي، وأرجوك أخي عبدالعزيز أن تبلغ المسؤولين رسالتي، بأنه إذا كان في قلوبكم مثال ذرة من شكّ في خطورتي على الوطن، وأكرّر مثقال ذرة من شكّ، فأبقوني بالسجن، لأني أدين لله ولرسوله الذي يقتضي مني السمع والطاعة لولاة الأمر".
كم أتمنى إعادة النظر في ملف الشيخ خالد الراشد، وأعرف أنّ في ملفه الكثير مما لم يذكره من مخالفاته، فضلاً عن الحملة في (تويتر) ربما ستؤجل النظر في ذلك، كيلا يظن، أنّ الدولة بكل هيبتها استجابت لبعض الأصوات في مواقع التواصل الاجتماعي بمثل ما ردّدوا في إطلاق سراح الشيخ سليمان العلوان بإجراء قضائي رهن المحاكمة، ولكن الجميع يدرك ما للدولة من هيبة وقوة وسلطان، وهو ما يجعلني أكرّر مع المتنبي وهو يخاطب سيف الدولة في بني كلاب الذين خرجوا عليه:
وأنت حياتهم غضبت عليهم وهجر حياتهم لهمُ عقابُ
وإنهمُ عبيدك حيث كانوا إذا تدعو لحادثة أجابوا
وبالطبع، ليسوا عبيداً أبداً، بل أبناء بررة، وإخوة كرام، ومواطنون يدينون بالحب لهذا الوطن ولولاة أمره، هم دعاة أحبة، من ذوي الفضل والمكانة الذين ربما أخطأوا وتابوا، ومن ذا الذي لا يخطئ.
أعجبني في الإخوة المشرفين على السجن، روحهم التكاملية، والطريقة الإدارية المميزة التي يديرون بها السجن، وهذه الميزة لمستها بشكل واضح في الشرقية، وقلت لهم: "نحن ندلّ في جدة دوماً، بأنّ (جدة غير)، ولكن ثقوا أن (الشرقية غير) إن كان على مستوى موقوفيكم أو رجال الأمن"، وهو ما يدعوني باقتراح هنا لسمو الأمير محمد بن نايف في عقد لقاء شهري بالمناوبة، يتنادى له المسؤولون في سجون المباحث في المملكة بزيارة كل سجن والاطلاع على ما ابتكره القائمون على ذلك السجن من مناشط، حيث وجدت مبادرات رائعة من مدير كل سجن، لا تتوافر في السجون الأخرى. من الضروري الإفادة من تجربة كل مدير لتحقيق التكاملية التي نحتاجها بتلكم السجون، ووالله إنهم ليقومون بأمن هذا المجتمع ويستحقون منا الدعاء، بأن يوفقهم الله لخير هذا الدين والوطن.
مسألة مهمة أخرى خرجت بها من ذلك السجن، في أهمية دعوة أهالي الموقوفين، وحضورهم بعض جلسات المناصحة، لأنهم عندما يرون فكر ابنهم المحتدّ، الذي يرفض التخلي عن فكر التكفير، لربما كانوا هم أول من يطالب ببقائه حتى ينخلع عن ذلك الفكر، ومن الجيّد ترتيب جولات لهم داخل أروقة السجون ومغاسلها ومطاعمها ووحداتها الطبية المتقدمة، ليروا عن كثب الخدمات التي تقدم، وأعرف أنه لا ثمن يضاهي الحرية، ولكن على الأقل، يطمئن الأهالي إلى أن ابنهم في أيد أمينة.
من أغرب ما رأيت في سجن الدمام، زيارتي لثلاثة سعوديين مسجونين من 12 عاماً، شباب في منتهى الأدب واللياقة، كان أميرهم سالم الخالدي، وهو شقيق الشيخ أحمد الخالدي الذي ظهر مع الشيخ عايض القرني في المحاورة التلفازية، ويختلف فكرياً عنه بالكلية. ورغم أنّ الحكم الصادر عليهم، يقول بفورية إطلاق سراحهم إن تركوا فكر الاعتقاد بالمهدي المنتظر؛ إلا أنّهم رفضوا ذلك، ووقتما استفهمت منهم، أجابني الخالدي: "نحن بايعنا أبا عبدالله، حسين بن موسى الحيدي، الموجود بالكويت بأنه المهدي المنتظر"، تعجبت، وقلت: "للآن أنتم تبايعونه وترونه المهدي المنتظر؟". أجابني: "نعم، وهذا من حقنا، ولم يقنعنا مشايخ النصيحة، وقد أمّرني أبو عبدالله عليهم، ونحن باقون على العهد له، ولن نترك هذا الفكر، وللأسف يصنفوننا مع الإرهابيين، ونحن ضد ذلك الفكر، بل يعلم الله تعاوننا مع إدارة السجن، التي نشكرها على ما تقدمه لنا، وتعاملنا أحسن المعاملة"، خرجت والله متعجّباً ومتأسّفاً أنّ شباباً بهذه الروح الرائعة يظلون أسرى لفكرة مبايعة المهدي المنتظر، وأكثر عجباً منهم، سجينٌ، جاءه الأمر بالإفراج ورفض الخروج، بل ومقابلة والديه، قائلاً: "لن أخرج حتى يخرج كل أهل السنّة من السجون".
حرصت في جولتي تلك، على زيارة موقوفين من إخوتنا طائفة الشيعة، لإيماني بأنهم مواطنون لهم علينا حقّ المواطنة، وفعلاً، ذهبت لهم، وتلك حكاية أخرى سأسردها في مقالتي المقبلة.