دقائق معدودة تفصلنا عن الساعة الرابعة فجراً، حينما تكون درجة الحرارة قد وصلت حدها الأدنى بين ناطحات سحاب "نيويورك".. يبدأ "جمال" بتنظيف عربته، وبالذات صاج قلي "النقانق" وقطع الدجاج، وإعادة ملء ثلاجة المرطبات والغازيات، لأن زميله في العمل على هذه العربة سوف يصل بعد دقائق قليلة، ليستلم العمل عليها حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، ليأتي زميلٌ آخر يعمل عليها حتى الثامنة مساءً، موعد عودة "جمال" للعمل على العربة، وهكذا دواليك، يومياً ودون توقف أو يوم إجازة.

"جمال" شاب مصري صعيدي من أسيوط، خسر كل ما يملك، واستدان من كل من يعرف حتى يهرب من بلده، أو لنكن أكثر تحديداً، من فقره.. سبع سنوات عجاف، وهو يتقدم بطلب الهجرة للسفارة الأميركية في القاهرة، لكنه لم يحصل أبداً على أي رد، بيد أنه استطاع الحصول على البطاقة الخضراء بوسائل أخرى كلفته كثيراً.

خلال فترة إقامتي في "نيويورك" لفت نظري "جمال" بسرعة بديهته، وابتساماته اللطيفة، التي كانت سبباً لجذب زبائنه من كل الأجناس والألوان، لكنني كنت ألحظ حزناً دفيناً يملاً عينيه الخضراوين. قابلت "جمال" مرات عديدة، حتى ألفت حديثه وارتحت له، لكنني يوماً ما أشرت إلى صورة بارزة معلقة في عربته، ألمح إلى أنني "سعودي" ولا يجب أن أعرف عنها شيئاً، تعجبت ثم تبسمت له وقلت إن الصورة معروفة، وهي للسيدة مريم العذارء، طبعاً "جمال" المسيحي يؤمن بمعجرات السيدة مريم العذراء، ويعلق بالقرب منها صورة أكبر للسيد المسيح – عليه السلام -، "مخلص البشرية" كما يقول. حاول تغيير الموضوع بشتى الطرق، وبأنواع القفشات التي يشتهر بها ابن البلد المصري الأصيل، ولكن بعد إلحاح شديد عليه، ذكر لي قصته المأساوية مع شاب سعودي قبل ثلاثة أشهر، والذي توقف أمام عربته، وتجاذب أطراف الحديث مع "جمال"، وكان يبدو عليه أنه شخص مثقف ومتعلم، ثم طلب من هذا وذاك، وقبل أن يدفع الحساب، سأل مُصِرّاً عن صاحبة الصورة.. يقول "جمال": أجبته بحسن نية وتجرد، لكنني فوجئت بتغير معالم وجه، وبتمتمات لم أفهمها، ثم فجأةً ترك ما طلب، وذهب دون أن يدفع حسابه!!

حاولت الاعتذار عن موقف مواطني، وأنه قد يكون شاباً صغير السن، وليس مدركاً لسبب وجود الصورة، وكون البائع مسيحياً، فضلاً عن ضرورة التعايش وتقبل الآخر، لكن "جمال" قال: "للأسف أن هؤلاء وغيرهم يعطون صورة غير صحيحة للإسلام".. الإسلام المتسامح الذي يعرفه "جمال" وبقية العرب المسيحيين، وغيرهم من الأقليات التي تعيش وسط مجتمعات مسلمة.. الإسلام الذي حوّره البعض ليكون متوافقاً مع مصالحه الفئوية والسياسية، وليس كما جاء به الهادي البشير صلى الله عليه وسلم. يضيف "جمال" بلهجته الصعيدية الرائعة: "أنا حريص على أن تكون جميع مكونات أطعمتي متوافقة مع اشتراطات الأطعمة "الحلال"، ولا أشتري سوى الأطعمة المصادق بحلّتها من المركز الإسلامي في "نيويورك"، ذلك لأن المسلمين هم إخوتي في العروبة، وشركائي في الوطن، فضلاً عن أن الصدق والأمانة في التجارة هما ركنها الأول".

في الحقيقة لم أكن أتصور أن يأتي أحد ما في بلد الحرية ليعاقب شخصًا آخر من بني جلدته فقط بسبب دينه السماوي، وللأسف ممن يفترض فيهم التسامح والوسطية، كون تلك الصفات الرائعة تعتبر ركناً أساسياً من أركان الشريعة الإسلامية السمحة.

المثير في الأمر أن نعرف أن "جمال" القبطي المصري، القادم من أعماق "أسيوط" الصعيد، حينما وصل مطار جون إف كندي في "نيويورك" لم يكن يعرف أين سوف يذهب هو وزوجته وأبناؤه، ولم يكن يمتلك أي شيء يذكر، وانضم مباشرة إلى القائمة الطويلة للباحثين عن العمل من المهاجرين الجدد، حتى قابله بالمصادفة مصريٌ آخر، وحالما عرف بوضعه العائلي عرض عليه على الفور وظيفة العمل في مستودع العربات الرئيسي، ليتولى "جمال" بيديه غسيل عربات "النقانق" يومياً بعد عودتها من أماكن وقوفها.. عمل "جمال" بجد واهتمام كبيرين، حتى عرض عليه مالك العربات أن يعمل بالبيع على إحداهن، وبالتحديد تلك التي تقف في تقاطع الشارع الثامن والأربعين مع الشارع العاشر بوسط "نيويورك". هذا المالك ـ وهو بالمناسبة مسلم وليس مسيحياً ـ ما إن رأى قدر الإخلاص في "جمال" وحبه للعمل؛ حتى عرض عليه أن يكون شريكاً له في ملكية العربة.. وهكذا وبكل بساطة.. عربة لبيع الوجبات السريعة في "نيويورك" يمتلكها عربيان مصريان، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، تجاوزا كل المخاوف والظنون، وتساميا على كل الاختلافات والتباعدات.. حتى أنتجا هذا الشراكة التجارية الناجحة، وقبل كل شيء هذه الصورة الإنسانية الرائعة.. هل وصلت رسالة "جمال"؟.. أتمنى ذلك..