كثر اللغط مؤخراً حول عقيدة الدكتور "نصر حامد أبو زيد" رحمه الله والذي وصل إلى حد الاتهام بالردة والكفر، ومثلما كان مثيراً للجدل في حياته، فقد كثر النقاش حوله حتى بعد وفاته، فمنذ الساعات الأولى التي أُعلن فيها خبر وفاته في الصحف، توالت تعليقات القرّاء، والتي تنوعت ما بين تعليقات تهكمية ومكفرة، حتى قيل إن أهل قريته أحجموا عن تقديم واجب العزاء فيه بسبب تكفير علماء الأزهر له.

وفي الحقيقة أن هذا الأمر غريب ومثير يستحق التأمل والتعليق عليه، حيث إن الدكتور رحمه الله مجرد نموذج لكثير من المفكرين والعلماء والذين تضطهدهم الشعوب في عصرنا الحاضر بسبب الفهم الخاطئ لنظرياتهم وآرائهم دون بحث أو تمحيص لها بأسلوب علمي سليم.

فحتى خصوم الدكتور تناولوا آراءه بشكل مجرد بحيث اقتطعوا نصوصاً من كتبه وجردوها من سياقها الأصلي، ليصبوا اتهاماتهم وجام غضبهم على شخص الدكتور، مع افتراض أمور وهمية غير موجودة، وللأسف انساق البعض مع هذه الموجة دون دراية أو إدراك.

فمن التهم التي وجهت إلى الدكتور هي مطالبته بالتحرر من سلطة القرآن والسنة وقد استشهدوا في ذلك على عبارات ونصوص من كتبه، نزعوها من سياقها الأصلي والذي يفضي ببساطة وسهولة إلى التكفير والردة عن الإسلام.

ومن هذه النصوص التي نزعوها من سياقها النص التالي للدكتور نصر حامد:

" وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها بل من كل سلطة تعيق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً قبل أن يجرفنا الطوفان".

وبناءً على النص السابق قالوا بأن المقصود بسلطة النصوص هي نصوص القرآن والسنة، وتساءلوا مستنكرين : "ماذا يريد للأمة بعد أن ألقى بالقرآن والسنة جانباً؟!"، ثم جاء الأتباع ليكرروا ما قاله أساتذتهم ولكن بأسلوب آخر : "العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة إلى رفضها وتجاهل ما أتت به".

وبالعودة إلى كتب الدكتور وإرجاع هذه النصوص إلى سياقها نجد أن المقصود بسلطة النصوص ليست نصوص القرآن والسنة وإنما النصوص الشارحة لها والتي تمثل آراء العلماء ذلك الوقت والتي أضفى عليها البعض طابع القدسية تماماً مثل نصوص القرآن وهذا ما أكد عليه الدكتور نصر أبو زيد.

ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي نجد أن كلام أبو زيد لا يتعارض مع أقوال كبار العلماء المسلمين، فقد قال الإمام الشافعي، رحمه الله ما نصه : "رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، وقال الإمام مالك أيضاً، رحمه الله: "كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر".. وقد أشار إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

وبعد كل هذا هل يعد نصر أبو زيد مرتداً عن الإسلام ؟ كما يقول البعض والذين انساقوا وراء كلام مغلوط لم يتأكدوا من صحته من خلال البحث والدراسة وقراءة كتب الدكتور بحيادية وموضوعية بعيداً عن الأحكام المسبقة التي صنعها البعض لأهداف غير معروفة!.

وما حدث لنصر أبو زيد حدث للدكتور طه حسين من قبله، وذلك عندما أطلق نظريته في نقد الشعر الجاهلي، وأعتبره منحولاً اختلقه الرواة في عصر متأخر، واستند الدكتور في ذلك على مقارنة الشعر الجاهلي بما جاء في القرآن من وصف لحياة الجاهلية أو انتقاداً لها، وبسبب هذه النظرية اتهم طه حسين بكل أمر فظيع ومنها الردة والكفر.

ولكن لو درس الناس هذه النظرية دراسة علمية بدلاً من التهم والإقصاء لعلموا كما قال الدكتور علي الوردي رحمه الله الخطأ الذي وقعوا فيه، فلقد نسوا أن القرآن يمثل الحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية الشعر الجاهلي.

وهناك أمثلة ونماذج كثيرة تحكي عن اضطهاد الكثير من العلماء والمفكرين على مر التاريخ وما نصر حامد أبو زيد إلا أحد النماذج الدالة على ذلك، وما يحدث اليوم في مجتمعنا من تبادل التهم وإقصاء آراء الآخرين ما هو إلا نسخة كربونية لمثل هذا النموذج.

فعلى سبيل المثال التهم التي وجهت إلى الكتّاب الصحفيين ونعتهم بـ (جند الشيطان)، والفتوى التي صدرت مؤخراً بتحريم الصلاة خلف من يستبيح "الأغاني"، ومن تحدث عن " الاختلاط" و"وجواز الصلاة من غير جماعة" ومضايقتهم حتى في بيوتهم، يا ترى ما هي الأسس التي استند عليها أصحاب هذه التهم؟!، وهل بالفعل قاموا بدراسة علمية لهذه المسائل؟ والذين انساقوا وراءهم هل قاموا بفهم ودراسة ما قاله الآخرون؟.

لا أعتقد ذلك، ولكن لو كلّف أحدهم نفسه بالبحث والدراسة الموضوعية لوجد غير ما يقال له، ومن المحتمل أيضاً أن تتغير قناعاته، ويتقبل آراء الآخرين بصدر رحب من دون تعصّب أو إقصاء.

يقول الدكتور علي الوردي بهذا الصدد: "يجب أن نعلم أن احترام الرأي يقضي علينا أن نهمل ما يكمن وراءه من عامل شخصي، فالرأي يؤخذ كما هو، بغضّ النظر عن شخصية صاحبه.. وما على الناس حين يتجادلون.. يفحصوا الرأي فحصاً موضوعياً، ولو كشف الله الغطاء عن ضمائر الناس لما سلم منهم أحد".

رحم الله الدكتور الوردي والدكتور نصر حامد أبو زيد، فقد خسرنا علماءً ومفكرين.. وضاعت الحقيقة والفائدة في خضم العواطف الهائجة.

وفي النهاية أطلب من كل شخص أن يقوم بالبحث والدراسة العلمية لما يطرحه الآخرون من آراء ونظريات، مهما كانت القناعات ومهما يقوله الآخرون عنهم من غير تجريح وإيذاء وصب التهم، ولنعلم أن الاختلاف من طبيعة البشر، وهذه هي سنة الله في الخلق والكون، وإذا فعلنا ذلك فأعتقد أننا سوف ندخل في مرحلة حديثة ومتطورة في النقاش العلمي بحيث تعم الفائدة على الجميع.