شكل إنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية حدثا علميا هاما في المملكة، فالجامعة بنظامها واقتصارها على التعليم العالي والبحوث والدراسات، خرجت من النظام التقليدي للجامعات المحلية، واختطت طريقا مختلفا ينحو إلى العلم والمعرفة وخدمة التنمية في المملكة والعالم والإنسانية جمعاء، لقد خرجت من أفق النظرة المحلية الضيقة إلى فضاء الرؤية الإنسانية الشاملة، ومن المؤمل أن تُحدث الجامعة نقلة علمية تقنية في المملكة، وتسهم في إعادة صياغة الرؤية تجاه البحوث والدراسات، ودورها في التنمية والتطوير، ومن المعروف أن الجامعة تمنح درجات علمية في الدراسات العليا فقط، أي أنها تقتصر على منح درجات "الماجستير والدكتوراه" في المجالات العلمية والتجريبية من علوم وهندسة ورياضيات وغيرها.

ومن الواضح أيضا أن برامج الجامعة تقتصر على العلوم التجريبية والتقنية، ولن يكون لها أي إسهام في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهذا أمر محمود، فالتخصص والتركيز هو سمة من سمات المؤسسات العلمية الناجحة، لكن الحاجة إلى البحوث والدراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية لا تقل أهمية وأثرا عن البحوث في المجالات العلمية والتقنية، خاصة في المجتمعات الآخذة بالنمو، كما هو الحال في المملكة، وهذا ما يجعلني أطرح مقترحا بشأن الجامعة الإلكترونية، التي بدأت الدراسة في برامجها مطلع العام الدراسي الحالي، واشتملت برامج هذا العام على درجة "البكالوريوس" في عدد من التخصصات، إضافة إلى برنامج واحد لدرجة "الماجستير"، والمقترح يقضي بأن تقتصر الدراسة في الجامعة الإلكترونية على الدراسات العليا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بحيث تكون الجامعة هي المقابل العلمي والمعرفي في العلوم الإنسانية لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وهذا الاقتراح يقوم على عدة اعتبارات، منها أن وزارة التعليم العالي تضم ضمن مؤسساتها العلمية المساندة "المركز الوطني للتعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد"، الذي أصدر مؤخرا لائحة التعليم عن بعد، وهي اللائحة التي ستعمل بها الجامعات السعودية بدلا من طريقة الانتساب التقليدية، وهو ما يعني أن الجامعات السعودية ستستمر، وربما تتوسع في تقديم خدمات التعليم عن بعد لدرجة البكالوريوس، إضافة إلى أن دخول الجامعة الإلكترونية في تقديم برامج الدراسات لدرجة "البكالوريوس" سيؤدي بالضرورة إلى تداخل وازدواجية في الأهداف والنتائج، ما بين مهام وبرامج الجامعات التي أصبحت تغطي كافة أنحاء المملكة، ومهام وبرامج الجامعة الإلكترونية الوليدة، فمع وجود الجامعات في جميع مناطق المملكة، إضافة إلى الجامعة المفتوحة التي تقدم هي الأخرى برامج البكالوريوس التي تحظى باعتراف وزارة التعليم العالي، ومع وجود "المركز الوطني للتعليم عن بعد"؛ يصبح دخول الجامعة الإلكترونية في برامج "البكالوريوس" نوعا من الهدر المالي والبشري، خاصة إذا صاحبه – كما يقول مسؤولو الجامعة – افتتاح مراكز لها في أنحاء المملكة.. فما الذي يدفع الجامعة الإلكترونية إلى أن تزاحم هذه الجامعات على طلاب البكالوريوس؟ وهل الجامعات القديمة والناشئة ستُحجم عن طرح برامج التعليم عن بعد لطلاب وطالبات البكالوريوس؟.

إن الرؤية المستقبلية للتعليم العالي في المملكة، وفي ظل الانتشار العددي للجامعات، توحي بأن المملكة لن تواجه مشكلة في استيعاب المتقدمين لمرحلة البكالوريوس، بل ربما العكس هو الصحيح، أعني أن الجامعات الناشئة خاصة في المدن الصغيرة ستواجه مشكلة في نقص المتقدمين بطريقة الانتظام – على الأقل في السنوات القليلة القادمة - مما يجعلها تلجأ إلى نظام الانتساب والتعليم عن بعد؛ لاستثمار كوادرها البشرية وتجهيزاتها المادية.

طبعا هذا المقترح لا يعني تحجيم وتقليص فرص دراسة "البكالوريوس" عن طريق التعليم عن بعد، وإنما يرمي إلى تلافي الازدواجية بين مؤسسات التعليم العالي، فالجامعات السعودية بما فيها الجامعة الإلكترونية و"المركز الوطني للتعليم الإلكتروني"، جميعها تنضوي تحت مظلة وزارة التعليم العالي، والشروع في اتخاذ قرار من هذا النوع ـ أعني قصر الدراسة في الجامعة الإلكترونية على الدراسات العليا ـ يقتضي بالضرورة أن يسبقه رؤية موضوعية وقرارات أخرى من وزارة التعليم العالي تذهب إلى توسع الجامعات في طرح برامج التعليم عن بعد لدرجة "البكالوريوس"، بحيث تكون هذه البرامج متوفرة في جميع الجامعات، وليس في بعضها كما هو الحال الآن.

وسواء اقتصرت الدراسة في الجامعة الإلكترونية على الدراسات العليا، أم استمرت في تقديم برامج "البكالوريوس"، فإن عليها أن تختط لنفسها في مجال الدراسات العليا مسارا جديدا يختلف عن تعقيدات وبيروقراطية الجامعات التقليدية، التي تقدم الإجراءات والاشتراطات الشكلية على الضوابط العلمية، وأن تعمل على إقرار معايير علمية عالية، وفي المقابل تسهيل الإجراءات الإدارية والبيروقراطية في القبول، وصولا إلى الإسهام الفاعل في تنشيط الحركة البحثية والعلمية المحلية.

إن مجال البحوث والدراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، يحتل موقعا متقدما في سلم الاهتمامات الحضارية، ويحظى باهتمام واسع من قبل الدول المتقدمة، وهناك مراكز عالمية للبحوث ومجلات علمية مرموقة تخدم قطاع المعارف والأبحاث في حقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية، وهو ما يجعلني أتأمل في مسؤولي وزارة التعليم العالي، ومجلس أمناء الجامعة وإدارتها تدارُس وتطارُح هذا النوع من الأفكار والمقترحات؛ تحقيقا للكفاءة وتلافيا للتجريب وتجنبا للهدر المالي والبشري، والله المستعان.