-1-
يخصص المفكر التونسي الراحل محمد الشرفي عشر صفحات (ص80- 90) من كتابه المهم (الالتباس التاريخي: الإسلام والحرية) لكي يثبت أن الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية كانت لذاك الزمان الذي جاءت فيه، منذ 15 قرناً. وهو بهذه "المحاجة" يخضُّ في قربة مقطوعة – كما يقال - حيث إن الموضوع قد استُهلك من قبل مفكرين وكُتّاب كثيرين بتّوا فيه البتّ الديني والمدني، وعلى رأسهم المصلح المصري الشيخ خالد محمد خالد في مختلف كتبه الأولى "من هنا نبدأ"، "لكي لا تحرثوا في البحر"، و"هذا أو الطوفان".
-2-
وكان على الراحل الشرفي، أن يستغل هذه الصفحات الطوال التي أهدرها في قضية باتت مُستهلكة ومن الماضي، ولم تعد قائمة إلا في أدبيات الجماعات الإسلامية الساعية إلى الحكم. فلا يوجد من يُطبّق حدود الزنا والسرقة وغيرها الآن في العالم العربي غير بلد إسلامي واحد، يقف بصلابة في وجه مطالبة لجان حقوق الإنسان في العالم وجمعيات العفو الدولية لإلغاء هذه العقوبات واستبدالها بعقوبات مدنية. وحجة هؤلاء أن الشريعة الإسلامية مثلها مثل القانون الروماني بالنسبة لأوروبا تمَّ وضعها في ظروف معينة، وخدمت تلك الظروف. لكن الظروف تجاوزتها الآن كما تجاوزت القانون الروماني الذي تخلّصت منه أوروبا. ونسي هؤلاء، أن القانون الروماني المذكور، من وضع البشر، أما الشريعة الإسلامية فلا يد للبشر فيها، وإنما هي أوامر إلهية لا مناص منها.
-3-
كذلك، انشغل الشرفي في كتابه، بضرورة إلغاء تعدد الزوجات في العالم العربي، وأهدر الكثير من الصفحات في استعراض الأقوال والحجج. وهذا الموضوع مثله مثل موضوع الحدود.
فما هي نسبة الذين يتزوجون أكثر من واحدة، في آن واحد، في العالم العربي؟ إنها فئة قليلة. وهي ظاهرة أخذت بالانحسار في العالم العربي. وكان الأجدى أن تخصص تلك الصفحات التي أُهدرت في محاجة هذا الموضوع، في الحديث عن ضرورة الرأفة والرحمة بالمرأة، ومعاملتها معاملة حسنة، كما أمرنا الإسلام بذلك. فذلك أكثر فائدة ونفعاً.
-4-
في الفصل الثالث، يتحدث الشرفي الراحل عن جدلية الإسلام والدولة، ويقرر أن لا دولة في الإسلام، وهو ما قاله من قبل الشيخ علي عبدالرازق في كتابة (الإسلام وأصول الحكم، 1925)، وقاله كثيرون من قبله ومن بعده. وعلى رأسهم "جماعة الإخوان المسلمين" الذين تخلّوا أخيراً عن إقامة الدولة الدينية، وطالبوا بإقامة دولة مدنية، كما جاء على لسان محمد السيد حبيب عضو مكتب الإرشاد السابق في مصر، الذي قدم شعارات سياسية حداثية جديدة للإخوان، في مقابلة صحافية مهمة (موقع الإخوان المسلمين على الإنترنت ، 28 /2 /2004)، وبعد أن اقتنع الإخوان المسلمون أخيراً، بضرورة وجود دولة مدنية تضبطها الشريعة الإسلامية، كما جاء في الخطابات والتصريحات المختلفة للرئيس المصري الحالي محمد مرسي، وكما هو في الدستور المصري الجديد المقترح.
والحقيقة التي يجب أن يعترف بها منكرو أن الإسلام دين ودولة، ومنكرو الدولة الإسلامية، سواء كانت دولة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الأولى في المدينة المنورة، أو دولة الخلافة الراشدة فيما بعد؛ بأن الإسلام دولة أيضاً، وبأن الإسلام كان ديناً ودولة. وأن الخلفاء الراشدين كانوا حكاماً سياسيين، إلى جانب أنهم قضاة من رجال دين.
-5-
ولكن السؤال ليس هنا، ولكنه في: هل هذه الدولة تصلح لنا الآن، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الكثيرة والكبيرة، وبعد أن أصبحت دولة الخلافة الراشدة بعيدة عنا بمسافة 15 قرناً من الزمان؟ وهذا هو الهدر الآخر للصفحات الطوال، التي كتبها الراحل الشرفي لإثبات غير مقنع أن لا دولة في الإسلام. وكان من الأفضل أن تُكرّس هذه الصفحات للاعتراف البسيط والسريع، بأن هناك دولة في الإسلام، ثم الانتقال للإجابة عن سؤال:
لماذا هذه الدولة لا تصلح لنا الآن؟ وبيان الأسباب التي تجعلها لا تصلح لنا الآن، فذلك أبقى في الأرض، وأنفع للناس.
هناك الكثير الكثير من الآراء التي طرحها هذا الكتاب بجرأة وشجاعة، وهي جديرة بالنقاش. ويظل هذا الكتاب إضافة متميزة في الفكر السياسي الديني، يحاول أن يزيل الالتباس التاريخي عن علاقة الإسلام بالحرية.