لا يستهدف هذا الحديث بأي حال التقليل من شأن المبادرات الفردية والجماعية، التي تتواصل يوميا من أجل رفع الحصار الإسرائيلي المفروض على أهلنا في قطاع غزة. إن ذلك، في اعتقادنا يمثل الحد الأدنى من التضامن، تجاه معاناة الأشقاء الفلسطينيين. وهو أمر تشجع عليه القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية.

ما نهدف له هو أن نميز بين الموقف التضامني، تجاه الحصار الإسرائيلي، والذي يجعل من القيادات التي تشارك بقوافلها في فك الحصار، جمعيات إحسان خيرية، بدلا من قوى مساندة ومعضدة لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة. والفرق كبير، بين العمل على رفع معاناة الفلسطينيين، وبين إسناد مشروع التحرير.

إن قوافل المساعدات المتجهة لقطاع غزة تعيد للذاكرة، صورة شعب العراق الجريح، وكيف كانت أوضاعهم قبل الاحتلال، فقد كانت الطائرات تصل تباعا إلى مطار بغداد الدولي، في تحد واضح للحصار الأمريكي المفروض عليه، منذ غزو الكويت عام 1990. وكان الاعتقاد أن التحدي الواضح للحصار من قبل المتضامنين مع شعب العراق، سوف يؤدي إلى كسر الحصار نهائيا عن بلاد السواد. وقد شارك في تلك الحملة منظمات إنسانية، ولجان مناصرة ضد الحصار، ونشطاء سياسيون، وكتاب معروفون، وممثلون وفنانون من مختلف أرجاء الوطن العربي. لكن تلك المحاولات، رغم دوافعها النبيلة، لم تتمكن من إنهاء الحصار.

لقد جاءت حوادث 11 سبتمبر عام 2001، بالولايات المتحدة الأمريكية، لتخلق معادلات جديدة في المنطقة بأسرها، ولتبعث مشاريع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، والتي كانت بانتظار فرصتها التاريخية. وكانت المحطة الأولى لتنفيذ المخطط الأمريكي للقرن الواحد والعشرين في البلدان العربية، بإقامة شرق أوسط جديد، هي احتلال عاصمة العباسيين، ومصادرة العراق كيانا ووجودا وهوية. وإقامة "عراق جديد"، مستند على القسمة بين الطوائف، وتعددية هويات ما قبل التاريخ، بديلا عن الهويات الاجتماعية والسياسية.

اليوم يحدث لغزة ما حدث لبغداد في السنوات القليلة التي سبقت الاحتلال. بواخر تتجه من تركيا ولبنان وإيران وقطر وليبيا والأردن والسودان... والقائمة لا تزال مفتوحة في محاولة كسر الحصار الجائر على قطاع غزة. والموقف مشروع، ولا يختلف على نبله أحد. لكن الحصار ليس مقدمة، ولن يكون المبتدأ والخبر في صراع العرب والفلسطينيين مع الكيان الغاصب. والاكتفاء بمواجهة الحصار، يحجم مشروع الصراع، من مقاومة لسطو الصهاينة، على أرض فلسطين وتشريد شعبها، إلى عمل خيري إنساني، هدفه تخفيف معاناة الفلسطينيين.

إن الحصار على غزة، هو أحد إفرازات الاحتلال الصهيوني، وينبغي في كل الأحوال ألا تتحول قضية فلسطين، من موضوع احتلال استيطاني للأرض العربية، على العرب مجتمعين أن يعدوا العدة ويرسموا الاستراتيجيات والخطط للتصدي له، إلى قضية معاناة لشطر من الأراضي المحتلة. إن على العرب ألا يعيدوا استنساخ سيناريو اللاجئين الفلسطينيين في المنافي بثياب جديدة.

كانت محاولات الغرب، قبل انطلاق المقاومة الفلسطينية، في منتصف الستينات من القرن الماضي، تعميم تفسيرها لقضية فلسطين، على أنها مجرد قضية لاجئين، لهم الحق في تلقي الدعم، لتحسين أوضاعهم المعيشية، من قبل المجتمع الدولي. أما موضوع حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها، فلم يكن قط من ضمن أجندات الدول الغربية.

في هذا الاتجاه، أنشأت الأمم المتحدة، بموجب قرار من مجلس الأمن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، التي تولت بناء المخيمات للاجئين الفلسطينيين في الأراضي التي نفوا لها، بالأردن وسوريا ولبنان. كما تولت الوكالة تقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية، لسكان هذه المخيمات، بحدودها الدنيا. وشاركت منظمات إنسانية، عربية وعالمية، في تقديم بعض الخدمات للمقيمين فيها.

بعد حرب يونيو عام 1967، أعيد تعريف الصراع العربي - الإسرائيلي، من قضية لاجئين، إلى صراع على أراض متنازع عليها. والإشارة هنا واضحة. إن الفلسطينيين لم يعد لهم شأن بالصراع البتة. وأن الموضوع برمته، يتعلق باحتلال الصهاينة لشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، والأولى جزء من الأراضي المصرية، والثانية، تابعة إداريا لسلطة حكومة مصر، ومرتفعات الجولان السورية، والضفة الغربية، ومدينة القدس، وقد ضمتهما المملكة الأردنية الهاشمية إلى أراضيها بعد نكبة عام 1948. لقد أعيد تعريف الصراع العربي- الإسرائيلي بعد حرب يونيو، واعتبر صراعا بين إسرائيل ودول الطوق، على أراض متنازع عليها. والمطلوب هو فك الاشتباك، وإيجاد حلول تتوصل فيها مختلف الأطراف إلى تسوية مقبولة. هكذا انتقل تعريف الصراع من صراع وجود، إلى صراع على حدود. وبهذا الانتقال، تحولت القضية الفلسطينية، من قضية العرب المركزية، إلى قضية هامشية.

ما يجري في غزة الآن، من محاولات حثيثة لكسر الحصار، وبغض النظر عن النوايا الحسنة، التي تقف وراءه، إن لم يردفه مشروع سياسي، سيسهم في حرف الصراع، من نضال وطني لتحرير الأرض، إلى عمل خيري للتخفيف من معاناة إنسانية. والخطورة في الأمر، ليس فقط أن تتحول مهام تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى جزر معزولة عن بعض، ولكن أن يكون فك الحصار، هو الجزيرة الوحيدة المتبقية من مهام نصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وأن تتراجع للخلف جل المهمات الأخرى، المطلوبة، لمقابلة حق الشعب الفلسطيني، في الاستقلال وتقرير المصير.

الجانب الإيجابي في هجوم فك الحصار، هو يقظة الضمير الإنساني، لدى الشعوب الإسلامية، التي أخذت تجاهر بتضامنها مع قضية فلسطين. وهو أمر يمكن استثماره في محاور أخرى، من محاور النضال الفلسطيني. بالإمكان، على سبيل المثال لا الحصر، أن يجري تحشيد مماثل للدفاع عن القدس. فقضية عروبة القدس، والدفاع عن مقدساتها الإسلامية، وفي المقدمة منها القدس الشريف، هي قضية إسلامية بامتياز. ولا تخص العرب وحدهم. وستكون انتفاضة المسلمين والعرب لإيقاف الحفريات الإسرائيلية المستمرة، في القدس للكشف عن الهيكل، خطوة عملية على طريق إسناد النضال الوطني لتحرير فلسطين.

بالمثل يمكن إعادة الاعتبار لموضوع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والقيام بحملة دولية، من أجل مناصرة هذا الحق. وهناك قرارات في هذا السياق، صادرة عن مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، لا تفقد صلاحيتها بالتقادم، ويمكن إعادة استحضارها والتركيز عليها.

ولن يكون مجديا أو عمليا، عمل هذه الدوائر بمعزل عن بعضها البعض، بل لا بد من التنسيق فيما بينها، وصولا إلى تحقيق الهدف الأكبر، تحرير فلسطين. كما لن يكون مجديا، أن تأخذ هذه المحاور سياقاتها العملية، خارج المشروع السياسي، فقضية فلسطين، هي بالأساس قضية سياسية ووطنية، ليست بحاجة إلى جمعيات خيرية، بل فعل نضالي، يقربها من هدف التحرير وتحقيق النصر.