لقد أثبتت النظريات العلمية أن قوة التأثير الثقافي والإعلامي أسرع وأشد وقعا من قوة السلاح، وذلك لقوة ما أسماه علماء النفس مجازا لها بالـ"بعد السحري". وذلك استنادا إلى ما قاله "هربرت ريد" في مسألة المزج بين الانفعال والتعاطف كما أوردته في كتابي (البعد الخامس في التلقي): "إن كلمة التعاطف تعني الإحساس، فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا داخل إطار هذا العمل، وستحدد مشاعرنا تبعا لما ستجده هناك وتبعا للمكان الذي نحتله، وليس من الطبيعي أننا نستطيع أن نزج إحساسنا في أي شيء نلاحظه، ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف". إن تضاؤل التمييز بين التعاطف والانفعال كان التأثير بما يسمى الـ "حقن تحت الجلد" وهنا تكمن الخطورة.

ولهذا تنبه الإعلام والثقافة الغربية إلى خطورة هذه الآلة فأطلقوا عليها مجددا مصطلح "القوى الناعمة" لما لها من دور في زعزعة الثقة. وزعزعة الثقة أدهى آلات الحروب وأشدها ضراوة، زعزعة الثقة هذه هي عماد القوة الناعمة وعصب رسالتها فيما تؤثره في الحروب الباردة وغير الباردة، التي كانت رسالة النص المسرحي الذي كتبته كاتبة هذه السطور بعنوان: "حينما تموت الثعالب".. حين يلعب الثعلب على زعزعة الثقة بذوات أعدائه فينتحل الموت أحيانا كأسلوب من أساليب المكر والدهاء، حتى وصل الأمر أن شنق البطل نفسه لأنهم زعزعوا ثقته بنفسه وأكدوا له مكرا أنه سبب دمار هذا العالم، فيموتون انتحالا فلا يجد بدا من شنق نفسه انتقاما للعالم الذي توهم للحظة أنه من دمره. هذه هي زعزعة الثقة بالذات، كأسلوب من أساليب تدمير الدول والانتصار على العدو. يقول جوزيف. إس. ناي Joseph S. Nye في دراسة له عن القوى الناعمة: "في غضون الحرب الباردة، نجحت استراتيجية الاحتواء التي انتهجها الغرب في الجمع بين القوة العاتية المتمثلة في الردع العسكري، وبين القوة الناعمة التي تمثلت في اجتذاب الناس خلف الستار الحديدي. وخلف جدران الاحتواء العسكري نجح الغرب في تدمير الثقة السوفيتية في الذات باستخدام الإذاعات المختلفة، ومن خلال التبادل الطلابي والثقافي، والنجاح الذي حققه الاقتصاد الرأسمالي. وكما شهد لاحقاً أحد العملاء السابقين بهيئة الاستخبارات السوفيتية KGB: "كانت عمليات التبادل الثقافي بمثابة حصان طروادة بالنسبة للاتحاد السوفيتي. فقد لعبت دوراً هائلاً في تآكل النظام السوفيتي". هذا هو دور التسرب الانفعالي والاعتماد على الوجدانيات في السيطرة على الشعوب، ولعل أقصر الطرق هو استخدام العقيدة- أي عقيدة- في تحقيق ما يسمى بالتسرب الانفعالي، وأهم ما في الأمر ما يسمى "ثقافة الصورة" يقول جي إف دونسيل خبير علم النفس الفلسفي: "لا يكون إدراكها في صورة وجدانية ذاتية مفهومة فهما مبهما، بل في صورة كتل وألوان، فيصاحبها بعض الانفعالات كالخوف والفرح والحزن والغضب، وهي انفعالات ستصاحبها استجابات فسيولوجية. نحن نعرف أن التكيفات الفسيولوجية تقع تحت السيطرة المباشرة للجهاز العصبي اللاإرادي، والسيطرة غير المباشرة للمخ".

ومن هنا اعتمد الغرب اعتمادا كبيرا على هذه القوى الناعمة والمتمثلة في الثقافة والإعلام، بل وتحددت لها ميزانيات باهظة لفهمهم خطورة هذا الجهاز وفعاليته في التسرب إلى وجدانات الشعوب وزعزعة الثقة في نفوس الأعداء، وبطبيعة الحال بطرق غير مباشرة منها استخدام الكتلة واللون والإضاءة والخط ثم الكلمة، يقول جوزيف في دراسته منتقدا ميزانيات الولايات المتحدة الأميركية بهذا الصدد: "مع نهاية الحرب الباردة أصبح الأميركيون أكثر اهتماماً بالتوفير في الميزانية بدلاً من الاستثمار في القوة الناعمة. ففي عام 2003 ذكرت مجموعة استشارية مكونة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في تقرير لها أن الولايات المتحدة تنفق على الدبلوماسية العامة في الدول الإسلامية ما لا يزيد على 150 مليون دولار، وهو مبلغ وصفه التقرير بأنه غير لائق إلى حد فاضح.. في الواقع، لقد بلغ إجمالي إنفاق وزارة الخارجية على برامج الدبلوماسية العامة وكل إذاعات أميركا الدولية ما يزيد بقليل على بليون دولار، وهو تقريباً نفس المبلغ الذي تنفقه بريطانيا أو فرنسا، وهما دولتان تمثلان خُمس حجم أميركا ولا تزيد ميزانيتا الدفاع لديهما على 25% من ميزانية الدفاع الأميركية. وبطبيعة الحال، ليس لعاقل أن يقترح على أميركا أن تنفق على إطلاق الأفكار قدر ما تنفقه على إطلاق القنابل، ولكن من العجيب أن تنفق الولايات المتحدة على القوة العاتية 400 ضعف ما تنفقه على القوة الناعمة. أي أن الولايات المتحدة أنفقت 1% فقط من ميزانيتها العسكرية على القوة الناعمة".

فإلى أي حد اهتم وطننا العربي بثقافته وبإعلامه (قواه الناعمة) في مقابلة إعلام وثقافة عالمية مفتوحة تتسرب إلى وجداننا وتعمل فينا عمل السحر الذي أسماه الدكتور والمفكر المغربي عبدالرحمن زيدان في أحد مناقشاتي معه بالـ"السحر الحلال"؟ ويتساءل جوزيف بقوله: "إذا كان لأميركا أن تنتصر في تلك الحرب "ضد الإرهاب"، فيتعين على قادتها أن يعملوا على تحسين أدائهم في الجمع بين القوة العاتية والقوة الناعمة فيما يمكن أن نسميه بـِ"القوة الذكية". إذاً، فالقوة الذكية مفادها الجمع بين القوتين بحسب تعبير مخترع هذا المصطلح حيث يقول: "القوة، إذا عرّفناها باعتبارها القدرة على التأثير على الآخرين، فهي تأتي في مظاهر متعددة، والقوة الناعمة ليست ضعفاً، بل على العكس من ذلك، فإن الفشل في استخدام القوة الناعمة بشكل فعّال هو السبب وراء ضعف أميركا في كفاحها ضد الإرهاب. القوة الناعمة هي القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. وإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ العصا والجزرة لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك".

ومن هنا فللقوى الناعمة دور كبير في استدرار القوة إن أراد القائمون عليها ذلك. ومن هنا تتم رسائل في إعلام مفتوح بدراسة ووعي وتقنية تبدأ بالخط والكتلة والتشكيل في الفراغ انتهاء بالضوء واللون مع خبرة بسيكلوجية الشعوب المستهدفة، كل هذه الأشياء تعمل فسيولوجيا ثم سسيولوجيا إذا ما أراد أي طرف زعزعة الثقة في أي طرف آخر، وبزعزعة الثقة تتهاوى القلاع، فكما يقول الكاتب المسرحي الدكتور فوزي فهمي في مسرحيته (لعبة السلطان): "لا تسقط القلعة المحاصرة لكثرة المحاصرين لها، ولكن تسقط حين يتساءل حماتها عن جدوى حمايتها".