يتعجب الكثير من البحوث والرسائل الأكاديمية التي تخالف المعايير الأكاديمية حتى في عنوان الرسالة ومنهجها، وهذا يُعطي القارئ انطباعا مسبقا بمدى جودة الرسالة، حيث لا توجد موضوعية حتى في العنوان، وبالتالي ففي المضمون من باب أولى، إذ إن الباحث لا يلتزم بمعايير علمية متجردة وموضوعية! ولو فتشنا في البحوث والرسائل الأكاديمية "النظرية" لوجدنا الكثير منها يبدأ بعبارة "الردّ" أو يصف رأيا بشكل سلبي في العنوان، مما يفيد بأن نتيجة البحث قد تحدد مسارها مُسبقا قبل البدء في البحث! وهذا ينسف أهم قاعدة أكاديمية أن الباحث يجب أن يكون موضوعيا متجردا ولا يشير إلى اختياره لرأي محدد إلا بعد دراسة الآراء المختلفة بمنهج علمي، ومن ثمّ فإن له أن يختار ما يشاء بعد ذلك، ولكن بشرط المنهجية العلمية السليمة.
ومن أهمّ أساسيات الدراسات الأكاديمية أيضا؛ الحرية المطلقة للباحث في البحث وعدم الوصاية عليه، وإلا فإنه لن تكون هناك فائدة للبحث الأكاديمي سوى الاستنساخ والتكرار للأفكار السائدة! ولذلك فإن أهم ركيزة يمكن من خلالها أن تكتشف مستوى البحث الأكاديمي في أي جامعة؛ فاسأل عن مدى حرية الباحث في اختيار النتيجة التي يتوصل إليها في بحثه. وهذا الكلام لا يصب في الجوانب المرتبطة بالسياسة فقط، بل حتى تلك الآراء التي قد تتحفظ عليها التيارات المحافظة.
وبالرغم من أن الحرية هذه قد تكون لها سلبيات إلا أنها هي الطريق الوحيد للوصول إلى الحقائق العلمية المجردة عن المؤثرات المحيطة. كما أن الموضوعية والتجرّد للوصول إلى الحق في البحوث تستدعي ذلك.
هذه الحرية يجب أن تكون من خلال عرض جميع الآراء الواردة في موضوع البحث، بالإضافة إلى دراسة ونقد مستنداتها بموضوعية متجردة، وأخيرا الحرية الكاملة في النتيجة التي يتوصل إليها الباحث.
ثم إن من يعتقد أنه على حق؛ فإنه لا يخاف من عرض آرائه ومناقشتها، طالما أن الباحث سيستخدم أدوات البحث العلمي السليمة، وللأقسام العلمية المتخصصة حق اختبار مدى سلامة استخدامه لتلك الأدوات! مع احتفاظ الباحث بحقه في الوصول للنتيجة التي توصل إليها ما دام أنها كانت بطريق علمي سليم.
وبالنظر في مواضيع البحوث الأكاديمية في العالم المتقدم، فغالبا ما تكون على شكل سؤال وليس موضوعا، حيث إن الغرض الحقيقي من البحوث هو الجواب عن أسئلة يختبر فيها الباحث معلوماته وقدراته الشخصية في الوصول إلى المعلومة بالإضافة لاختبار قدرته التحليلية والاستنتاجية للمعلومات التي توصل إليها، وذلك يجب أن يتم عرضه من خلال تسلسلية متناسقة انتهاء إلى الوصول للنتيجة. وبهذه الطريقة تتم الفائدة الحقيقية للمجتمع من خلال البحوث الموضوعية المتجردة.
الحقيقة أن هناك الكثير من البحوث الأكاديمية التي لا يمكن أن توصف بالأكاديمية في ظل فقدانها لأهم قاعدة من قواعد البحث الأكاديمية وهي الموضوعية والحياد في الدراسة! ولا أدري ما هي الفائدة الأكاديمية من بحث يأخذ من صاحبه سنوات ثم ينحصر جهده في تكرار كلام أسلافه دون أن يكون له أي حق في نقد ذلك الكلام أو مخالفته! إلى درجة أن بعضها يمكن أن يوصف بأنه عرض تاريخي للموضوع ومجرد سرد للآراء وطريقة تعامل الأسلاف معها! ولو أخذنا هذا الموضوع من جانب آخر؛ فإن هذه الطريقة الوصائية تجعل الآخر يتشكك في حقيقة التجرد في البحث عن الحق (خاصة في المسائل المرتبطة بالقيم والعقائد).
إذا نظرنا إلى واقع بعض جامعاتنا فإننا نلحظ وبوضوح انعكاس العادات المجتمعية المحافظة على بعض تلك الأقسام، فنجد أنها تتحفظ بشدة على أي شيء قد يكون غير مألوف لدى المجتمع، بينما هذا يفترض ألا يوجد في جوّ أكاديمي حرّ.
هذا الوضع لا يمكن أن يتغير إلا بوضع معايير أكاديمية قوية ومن جهات مستقلة بشكل كامل عن الجامعات أو حتى التيارات الفكرية في البلد، ويجب أن يكون لدينا تصنيف علمي للجامعات المحلية، سواء منها العامة والخاصة، أسوة بالدول المتقدمة. فمثلا في بريطانيا لا أكاد أحصي التقييمات العلمية الدورية للجامعات، حتى إن بعض الصحف العالمية البريطانية المحترمة لديها تصنيفات سنوية تخصها، مثل التايمز والجارديان وغيرهما. هذه التصنيفات تساهم بشكل كبير في تحريك الماء الراكد في الأقسام العلمية، وتنبهها لأخطائها التي أثرت في مستوى تقييمها مثلا!
السؤال الأهم هنا هو؛ هل هنالك رغبة أصلا لدى بعض الأقسام النظرية في التجديد والإصلاح؟ أم أن الأيديولوجيات الحركية تراكمت وسيطرت على العقل والفكر بشكل جعل حتى معايير البحث الأكاديمي مطوَّعة ومنكوسة لتتوافق مع الأيديولوجيات الخاصة ولتجميد الماء الآسِن على حاله؟