يمكن اعتبار ملحق الكتب يوم الأحد في جريدة النيويورك تايمز أحد المؤشرات الكلاسيكية على حركة الكتب والتأليف في أمريكا والغرب المتحدث بالإنجليزية. في هذا الملحق الشهير تقدم مراجعات كثيرة لعدد مهم من الكتب حديثة الصدور بالإضافة إلى قوائم بالإصدارات والمؤلفات الجديدة. من سمات هذا الملحق أنه ملحق متنوع، فغالبا ما يحتوي عدد الأسبوع على كتب في الطبخ والسياسة والفلسفة والعلم والتاريخ والأدب والفن. ما أرغب في الحديث عنه اليوم هو ظاهرة الكتب العديدة التي تصدر كمراجعات للحظات تأسيسية مهمة سواء للغرب أو للولايات المتحدة الأمريكية. هذه المراجعات تغلب عليها الروح النقدية، بل تعطي مؤشرا مهما على أن النقد الفعال والمحرك هو النقد الذي يتوجه للمبادئ والمسلمات الأولى.

في أبريل الماضي أصدر المؤرخ الإنجليزي الأستاذ في أكسفود Diarmaid MacCulloch كتابا بعنوان "تاريخ المسيحية: أول ثلاثة آلاف سنة". يأتي الكتاب في أكثر من ألف صفحة ينطلق فيه المؤلف من حوار تاريخي بين المسيح والحاكم الروماني Pontius Pilate الذي اعتقل المسيح ودار بينهما الحوار التالي: إذن أنت ملك؟ يسأل الحاكم ويرد المسيح: لقد خلقت لهذه المهمة، لكي أكون شاهدا على الحقيقة. من يريد الحقيقة سيستمع إلى صوتي. ويرد الحاكم بنغمة ساخرة: وما هي الحقيقة؟. يبقى هذا السؤال معلقا ويقرأ المؤلف كل تاريخ المسيحية كتاريخ من أجل الإجابة على هذا السؤال باعتبار أن الكنيسة جعلت مهمتها الرئيسية مهمة تقديم الحقيقة. إلا أن هذه الحقيقة لم تكن يوما خارج إطار صراعات السياسة والسلطة رغم دعاوى الكنيسة أنها تتلقى الحقائق من مصادر علوية نقية من الشوائب.

تاريخ المسيحية بحسب المؤلف "مكالكس" يبدأ قبل ولادة المسيح بألف سنة باعتبار أن اليهودية والحضارة الإغريقية كانتا المقدمتين الأساسيتين للمسيحية. بمعنى أنه بدون الحضارة اليونانية والديانة اليهودية لم يكن ليتشكل الفضاء المعرفي الذي ولدت المسيحية وتطورت من خلاله. هنا يعود المؤلف للحظات التأسيس الأولى ليطرح عليها الأسئلة النقدية ويقدم من خلالها حكاية أولى تستمر مع التاريخ لتصل بنا إلى العصر الحديث. من الأسئلة التي يطرحها المؤلف أيضا عملية انتقال المسيحية من كونها مولودة في الشرق الأوسط، في فلسطين وبلغة تنتمي لهذه المنطقة تحديدا إلى الغرب لتصبح روما هي المركز الرئيسي للمسيحية بدلا من فلسطين أو أي مكان في الشرق الأوسط. تحرك المسيحية في اتجاه الغرب هو سؤال مهم تاريخيا وربما يعيدنا تحديدا إلى النقطة التي انتهينا فيها في الفقرة السابقة وهي العلاقة بين السلطة السياسية الرومانية وتحريكها للمسيحية في الاتجاه الذي ترغب فيه.

تبقى لحظات التأسيس الأولى لأي حركة أو قضية لحظات مركزية لا يمكن تحقيق الفهم العميق بدون العودة لها باستمرار. كما أن النقد الحقيقي هو النقد الذي يعود لتلك اللحظات ليفهمها من جديد باعتبار أن الروايات المتوفرة لتفسير لحظات التأسيس هي روايات محتملة ضمن عدد كبير من الاحتمالات الأخرى. تأتي مهمة الناقد هنا باعتبارها محاولة لتجاوز الروايات الحالية أو المتداولة تاريخيا والعودة للحظة التأسيس لإعادة الفهم والتفسير من جديد وربما تقديم رواية إضافية من المهم تجاوزها هي الأخرى في المستقبل على يد نقاد آخرين.

المشكلة أن عملية النقد التي تطال لحظات التأسيس هي من العمليات الصعبة تاريخيا والمحفوفة بكثير من المخاطر. فقط في القرنين الأخيرين حصل النقاد في الغرب على حريتهم في ممارسة هذه المهمة دون خوف. حالة الخوف من نقد لحظات التأسيس تأتي بسبب استفادة مجموعة ما من رواية واحدة محددة وتأسيس مشروعيتهم عليها وبالتالي شعورهم أن المساس بهذه اللحظة هو مساس بمشروعيتهم وهو ما يستوجب قمع كل من يحاول المساس بهذه الرواية. اليوم أصبحت السلطات السياسية، صاحبة السلطة، لا تتأسس على روايات تاريخية بقدر ما تتأسس على قدرتها على تقديم خدمات للمواطنين مما جعل المساس بالروايات التاريخية لا يمثل خطرا على النظام السياسي الحالي. أيضا من الصعوبات التي تواجه عملية نقد لحظات التأسيس الاعتقاد بأن هذه اللحظات ليست سوى لحظات تاريخية تجاوزها الزمن وأصبحت خارج التأثير والفعالية. تنتشر هذه المقولة في كثير من الأوساط الأكاديمية التي تستبعد الأثر التاريخي من الواقع وتعتقد أن معادلة الواقع الحالية كفيلة بنقده والتعامل معه. المثير للتفكير بعمق هو أن لحظات التأسيس التاريخية عصية على التجاوز التاريخي، فهي تبقى لحظات فاعلة بشكل أو بآخر ولو على مستويات أسطورية فاعلة في اللاوعي الاجتماعي والثقافي. ليس من المستغرب اليوم وجود نقاش طويل عريض في الوسط العلمي على منجزات نيوتن أو مناهج بيكون في التفكير العملي باعتبارها لحظات تأسيسية من المهم العودة لها بالتفكير وصولا إلى فهم وتفسير آخر للواقع المعاصر.

الثقافة النقدية برأيي هي الثقافة التي تستفز أفرادها لممارسة النقد على أعلى مستوياته الممكنة. أحد هذه المستويات هو مستوى اللحظات التأسيسية باعتبار أن النقد هو المعبر الأكبر عن حيوية وحياة ثقافة ما.

الثقافة الحية هي تلك التي تتأسس باستمرار، الثقافة التي لا تعترف بلحظات نهائية وتستفز عقول أفرادها باستمرار لقول ما لم يقل بعد. في حين تلقن الثقافات المتوقفة أفرادها أن يرددوا إلى ما لا نهاية ما قد كان قيل من قبل باعتبار أن الأولين لم يتركوا للآخرين من شيء.

في الأسبوع القادم سنتحدث عن نقد آخر للحظة تأسيسية أخرى وهي لحظة الثورة الأمريكية، الحدث الأهم في التاريخ الأمريكي الحديث.