استيقظت صباح الأمس على رسالة الصديق الأغلى، بل الشقيق الأثير، قينان الغامدي وفيها يعاتبني بلغة جارحة على نسيان الأخ لأخيه في أحلك الظروف، لأنني لم أهاتفه مباركاً بالنجاة من الحريق أو مواسياً في حريق –الشرق– نفسه. وبالطبع لا عذر لدي إلا إذا قبل – أبوعبدالله – عذري بعدم العلم، لأنني كنت – خارج المكان – مثلما هو عنوان كتاب إدوارد سعيد. وبكل تأكيد أستطيع أن أقول له إنني كنت (خارج التغطية) لعدة أيام أهرب فيها كل (شتاء) ووحدي إلى المعزول والمجهول، لمداواة النفس – بالخلوة – من ضغط المجتمع والجماعة، ولكن: من هو الذي سيقبل العذر في عصر ثورة الاتصال؟ ومن هو الذي سيظن أن من مثلي سيكون ليوم شارد بلا جوال أو بلا صفحة للتواصل الاجتماعي؟ من هو الذي سيظن أن من مثلي سيهرب إلى – عروق الرمل – على أطراف الصحراء لثلاث ليال ويومين كي يداوي بالرمل من جراح النفس ما لم يستطع – محلول – الجراح أن يعالجه، وما لم يستطع أحد أن يكتشفه أو يفهمه؟ كل ما فعله الشقيق الغالي قينان الغامدي في رسالته أنه أضاف لحريق – الشرق – حريقاً في نفس مضطربة. نفس تراقب مجموعة أصدقائها الأوفياء الخلص وهم يهربون منها بمعدل يومي، واسألوا الأصدقاء سعد مارق، وسعيد بن صبر، وخالد الدخيل، وابن رفاع، ومحمد سعيد الشهراني، ثم اسألوا أسراري المكنوزة في صدور التوأمين (عيسى سوادي وأحمد التيهاني) كي تعرفوا أنني لا أبكي تحالف الظروف قدر ما أبكي (تفصم) الأصدقاء وهم يهربون من حياتي كاللؤلؤ الأصيل من "السبحة" المنفرطة. لا يعرف قينان الغامدي أنه الصورة العملاقة الوحيدة في مكتبي المنزلي بجوار صور أولادي المنثورة على الجدران، وحتى لو أنه أراد أن يهرب فسيبقى (البرواز) أغلى الذكريات. لم يعد بهذه المدينة ما يمكن الإمساك به سوى الذكريات. وصلت لمنتصف شوكة الميزان التي تستوي في كفتيها أن أترك للصديق فرصة الهروب من حياتي أو أن أتمسك به. صرت أكره رسائل الجوال، لأنها قد تحمل عتب الأصدقاء أو تحمل معها إشارة الهروب. صرت في هذه المدينة مجرد متحف للذكريات ولم يعد يبكيني بها أكثر من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم. لكن خسارة قينان الغامدي ليست مجرد خسارة لصورة إلى يميني (الآن) بقدر ما هي الإشارة إلى ميل شوكة الميزان إلى منطقة حرجة. بات الأصدقاء لا يقبلون الأعذار ولا يصدقون، وسأصدقهم أنني كل السبب. تركوني لأنني أهملتهم في الأفراح والأتراح دون أن يدركوا أنني أهملت حتى نفسي التي يستوي فيها (الآن) كل شيء.