في ليالي القرية الرمضانية الساكنة كنا نسعد كثيراً باللقاء وبالخلوة، ففي الخلوة نراقب في لياليها القمر ونعد النجوم ونتأمل الأصوات، بل يصل الأمر إلى أننا كنا نصغي جيداً للمياه التي تعبر شعابها، وتتسلل إلى أوديتها في الأيام الممطرة، فلا تكاد تختفي إلا بعد بضعة أيام، نسمع خرير المياه وحفحفة الأشجار، ونقيق الضفادع فلا نكاد نغفو، وفي اللقاء نتحدث أحاديث كثيرة لا سياسة فيها ولا ثقافة، تأخذنا هموم المواشي وأحوال الديار ومحاصيل الأرض وأسواق القرى ومواسم الحصاد إلى أحاديث لا تملّ، فلا تلهينا عن الواجب، ولا تحيلنا إلى الدعة والكسل والخمول. نسمع من الحديث ما يجعلنا ننسى تعب النهار وعناء السعي خلف رزق يقل ويكثر، لكنه بالنسبة لنا ولآبائنا مقنع ومرضي عنه.
لم يكن رمضان استثناء عن بقية شهور السنة، لكنه يختلف عنها بالتعب المنسي، كما يقال، فقد اعتدنا أن نكون فيه فاعلين، فلا تلهينا عن العمل في نهاره مدرسة ولا نوم ولا تعب، كان آباؤنا يفتتحون النهار بالبكور، فيذهبون إلى أراضيهم الزراعية قبل أن تسبقهم الطيور فتأخذ خير الأرض، وبركتها، فيما نتولى نحن في البيوت أمور المواشي، فنخرجها إلى المرعى، ونحرص على أن تبقى دون أذية من ذئاب الجبل، نسرّحها في أرض الله، فتعود إلينا قبل حلول المساء، ويا لسعادتنا حين لا تغيب عنها ماشية، فنرضع صغارها، ونحلب ما بقي في ضروعها من لبن، فيما تتولى النساء ما أشكل علينا فعله، فتخض المرأة حليب المواشي، وتصنع بواسطته طعاماً يطيب للكبير والصغير، أما نحن فعلينا أن نساعد النساء في تنظيف حظائر المواشي، فقد اعتدنا عليه عملاً لا يستحي منه رجل ولا تأنف منه امرأة.
في رمضان القرية تزداد الحياة بهاء بالعمل، فلا يحل المساء إلا وقد اشتاقت نفوسنا للراحة والطعام، وبعض السّمر.
تلك حكايتنا في رمضان مع ليله ونهاره، فكيف هي مع آباء سبقونا إليها عناء وسفراً من أجل لقمة عيش، وحياة كريمة؟ وكيف بها مع أبناء لم يدركوا صعوبتها وشقاءها، فتغيرت حياتهم دون أن يذكروا شيئاً من ماضي آباء كتبوا في الحياة سيرة الكفاح والعمل.
علي فايع - قاص وناقد