في مجتمعاتنا الإسلامية النامية، لا يمكن أن يتحدَّث شخصٌ عن تجربةِ حياته خارج نطاق الأبعاد الدينية التي تحكم هذه الحياة وتحاصر هذه التجربة منذ البداية. وحينما أشدُّ على نفسي طوقَ الذكرياتِ حنيناً إلـى الزمن الغابر وأتحسَّسُ ما تبقَّى في ذاكرتـي الدينيَّة الطفولية من آثار، أتذكَّر (رمضانَ) وهو يتجوَّل في أزقَّة العمر الأولـى، وأصحو على تثاؤبِ نـهاراته التي تلمع مثل كواكبَ ملتهبةٍ من العطش والجوع والصبر والحرمان والمعاناة. أتذكَّر (رمضانَ) يعلِّقُ الفوانيسَ على ضفاف لياليهِ وينظِّفُ فضاءاتِ الوجوهِ من سُحُبِ النومِ المبعثرة على الملامح والقسمات. أتذكَّر (رمضانَ) قادماً بجبروت الصبر والأجر والثواب يتغلَّبُ على منطق الأكل والشراب والغرائز البشرية. أتذكّر (رمضانَ) وهو يربتُ بيدِهِ الروحانيةِ على روحي المعذَّبةِ حتّى أشعرَ بـهروبِ شياطينَ كثيرةٍ من جسدي لدرجة أنني أستغرب كيف تمكَّنَتْ كلُّ هذه الشياطينِ من الدخول في هذا القفصِ الطينيِّ الصغير. أتذكَّر (رمضانَ) هذا، وأستعرضُ تاريخي في مراياهُ حيث يستعيدُنـي في أطفالـي حينما أراهم يكابدون ذاتَ الأحوالِ ويحسُّون ذاتَ المشاعرِ ويتحدَّثون ذاتَ اللغةِ الطهرانيةِ عن معاناتـِهِم البيولوجيَّة في هذا الشهر الكريم.
في الماضي، كان (رمضان) منذ يومه الأوَّل يعلنُ حَظْرَ تَجَوُّلِ الطيشِ في شوارعِ النفوس ويحرسُ هذا الـحَظْرَ المقدَّسَ بكتيبةٍ من الطقوسِ المدجَّجَةِ بالفضيلةِ والقِيَمِ كُنَّا نمارسُها بعمقٍ وصدقٍ ومودَّة من أجل أن نضخَّ في أوردة إنسانيَّتنا كثيرا من الماء والعشب والهواء والنقيّ. أما الآن، وبعد أن طَرَقَ الزمنُ وجوهَنا بعنفٍ شديدٍ وأصبح الإنسانُ داخلَنا مقفراً من الوجد، أصبحنا نمارسُ ما تبقَّى من تلك الطقوسِ ممارسةً عابرةً كي نترجمَ ما تبقَّى في نفوسِنا من حنينٍ إلـى (رمضانـ)ـنا الأوَّل.
هو التغيير سُنَّة الحياة، وليس ثَـمَّةَ مساميرُ خاصَّةٌ قادرةٌ على تثبيتِ لوحِ الماضي على واجهة الزمن الحاضر. ما الذي يستطيعُ (رمضانُ) دَفْعَهُ من ثمنٍ للحفاظِ على تقاليدِهِ وجمالِ رونقِهِ في لياليه وأيامه، وهل أصبح سَيِّدُ الشهور هذا، هل أصبح يتقهقرُ أمامَ جبروتِ التقنياتِ الحديثةِ؟ أم أنَّ الحضارةَ ألـهمته كيف يُوَظِّفُ مبتكراتِـها في خدمة هذه التقاليدِ وبقائِها متوهِّجةً على ناصية الزمن؟ عاداتٌ وتقاليدُ كثيرة تمّ اختطافُها من حياتنا على طائرة الحضارة التي لا نعرف نحن المسلمين شيئا عن رحلتها في الزمن، ولكنْ أن يتمّ اختطافُ شهرِ رمضان بمعظم ما يحمله من شعائر وتقاليد فهذا ما يدعونا إلى أن نشدّ حبل الاستغراب ونتسلّق به قمّة التعجّب!
وربما من نافل القول أن نذكر أننا ما زلنا نتمسَّكُ تمسُّكاً رومانسياً بما تساقطَ من تلك التقاليد ساعةَ اختطافها لنثبت وجودَها القديم مثل آثارِ أقدامٍ على طينٍ يابسٍ تُرِكَتْ لِتَدُلَّ على أنّ أحداً ما مرَّ من هنا. ولا أريد في حديثي هذا أن أقدِّم رمضان وكأنّه أصبح متحفا تفوح منه رائحة الحنين إلى ما هو قديمٌ من تقاليده وأعرافه التي كانت تطرّز لياليه المباركة بوهجها الجميل.. لا أريد ذلك وإن غلبني الحنين فهو بطبعه غلاَّب، إلاَّ أنني أودّ أن أشير إلى أنَّ وهجَ بعضِ تلك العادات التي كانت قديما تتآزر فيما بينها لتصنع جوًّا رمضانيا روحانيّا شائقا.. ذلك الوهج ما انفكَّ يخبو ولكن دون أن يتلاشى تماما.
مما لا شكَّ فيه أنَّ (رمضان) هو الشهر الذي تتصدَّقُ فيه السماءُ على الأرضِ بسخاءٍ منقطع النظير، ولذلك تبقى قِيَمُهُ تحملُ في أحشائها حياةً إنسانيَّةً تستحقُّ أن تُعاش، ولكن علينا أن نجتهدَ في استولادِ هذه الحياة. (رمضان) هو بلا شكّ الشهرُ الاستثناءُ الذي تبحث فيه الحياةُ عن معنًى جديدٍ لـها عبر ممارساتٍ روحانيَّةٍ عديدةٍ تعيد صياغةَ النفس البشرية في فرنٍ ملتهبٍ من شعائر العبادةِ كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والصدقة وغيرها، ولعلَّ التأمُّل بالنسبة لـي هو الشعيرة الأكثر دفئاً وحرارةً ما بين هذه الشعائر، وقد تتَّسع دائرة التأمل الذي رُبَّما يبدأ بالصوم، ولكن بالتأكيد لن ينتهي عند (طبلة المسحِّر). لذلك، فإن شهر (رمضان) منذ بدايته حتى نـهايته يفتح أمامي أبواب التأمّل على مصاريعها فلا أكاد ألـجُ من بابٍ يفضي بـي إلى حقيقةٍ جميلةٍ حتى يستدرجُني بابٌ آخر يوصلُني إلى حقيقةٍ أجمل.
منذ اليوم الأوَّل من هذا الشهر الذي يختلفُ المسلمون في استهلاله ما بين مستهلٍّ بالمناظير ومستهلٍّ آخر بالعيون المجردة، ينشطرُ الـهلال في الأفق إلـى أَهِلَّة، وتنقسمُ السماءُ إلى سماواتٍ في فضاءِ العالم الإسلامي، وهناك حيث الاختلافُ يكون سَيِّدَ الموقف، أعرفُ أنّ (رمضان) قد بدأ. أتأمَّلُ ارتباكَ هذه البداياتِ بإيجابيَّةٍ مطلقةٍ فأشعر أنَّ هذا الاختلافَ هو عنوان التنوُّع الذي يتوزَّع على الأزهار كي تصنعَ ربيعَها في الحقول. ولكن للأسف، هناك بعض الأفراد مِمَّن ينظر إلى هذا الاختلاف نظرة سلبيَّة توحي بتشرذم المسلمين، وهذه النظرة تعكس نفسيَّة هؤلاء الأفراد ولا تعكس الحقيقة.
يستدرجُني التأمُّلُ إلـى البحث عن تاريخ الحكايات الأولـى للطقوس والتقاليد الرمضانية وأسرارها القديمة فأتأمَّل أعمقَ وأعمقَ حتَّى أكاد أسمع أصداءَ الطلقة الأولـى التي انطلقت من مدفع الإفطار المحشوّ ببارود الفرج بعد يوم طويل من المكابدات الجسدية، وحينما يأتـي السَّحَرُ حيث تتكثَّف العتمة ويزداد الليلُ ليلا، تأسرُنـي (الطبلةُ) حين يوظِّفُها (المسحّر) في وظيفةٍ قدسيَّةٍ تعلنُ عن بدءِ ميقاتِ (السّحور)، وكأنّها تتناقضُ تماما مع وظيفتها الأساسية في الطرب واللهو.. هذا التناقض المحبَّب يكشف لي أنّ الإنسان هو مشرِّع الخير والشرّ لنفسه.
في نهاية المطاف، إنَّ (رمضانَ) في مراسيمِهِ الطاهرةِ الصاعدةِ إلـى الله هو باحةٌ من قناديلَ تشعلُها الرجاءاتُ والآمالُ والأحلامُ التي تحومُ في آفاقِ النفسِ البشريّةِ إذْ إنَّنا بعد أن نتحوَّلَ إلـى كائناتٍ شبهِ اصطناعيَّةٍ خلال أحد عشر شهرا من السنة، يأتـي (رمضان) كي يذكِّرَنا بأنَّ داخلَنا كائناً جميلاً اسمه الروحُ ما انفكَّ يختنقُ ويحتاجُ أن نمدَّ إليه خراطيمَ الصفاءِ والنقاءِ كي ننقذَهُ من قبضة الاختناق.
جاسم الصحيح - شاعر وأديب