نظريات التعلّم تبحث في هذا السؤال: كيف يتعلّم الإنسان؟ وبناء على التصور الناتج عن هذا السؤال تنطلق طريقة التعليم وتقديم المعلومات والتعامل مع الطلاب. التعليم التقليدي القائم على التلقين هو تعليم ينطلق من تصوّر معين للمعرفة والتعلّم، تجعل منه يرى أن التلقين أولا ممكن وثانيا نافع. برأيي أن التعليم التقليدي يقوم على تصور جوهري وهو أن الفرد يمكن أن يمتلك معرفة لا يقوم بالمشاركة فيها. أي أنه يمكن أن يتلقى المعرفة بدور سلبي كامل أو غالب. نجد هذا التصور في تيارين قويين في التاريخ الأول ديني والثاني فلسفي. التصور الديني يعتقد أن المعرفة يمكن أن تلقى من الله على عباده وأن هذا ما تحقق على فترات معينة في التاريخ. التصور الفلسفي يعتقد أن المعرفة فطرية وأن المولود يولد وفي طبيعته تصورات كامنة عن الخير والحق. أفلاطون مثال واضح على هذا التيار.
في علوم التربية الحديثة أصبحت هذه التصورات تقريبا مهجورة وأصبح التصور للتعلّم يتطلب مشاركة من المتعلّم. لم يعد من المتصور أن يتحقق تعليم حقيقي في ظل دور سلبي للمتعلم. وهذا ما يجعل من الحوار جزءا أساسيا وجوهريا من العملية التعليمية. الدور الفاعل للمتعلّم في التعلّم يجعل من الطبيعي إشراكه في عملية إنتاج المعرفة وتحصيلها. من النظريات الحديثة في هذا المجال النظرية البنائية التي تقوم بشكل أساسي على أن المعرفة لا طريق لها إلى داخل الفرد إلا عن طريق بنائه لها. أو أن المعرفة بالضرورة حين تنقل من فرد إلى آخر لا تمر كما هي بل تخضع لإعادة بناء من المتلقي. يقول جلاسيرفيلد في كتابه البنائية الراديكالية: "المعرفة، بغض النظر عن تعريفنا لها، هي في رؤوس الأفراد، والمفكر ليس له خيار إلا بناء ما يعرف على تجربته الخاصة". ما يريد جلاسيرفيلد هنا طرحه هو أن كل فرد بناء على خبرته السابقة ومعرفته السابقة يبني المعنى الخاص به للمعرفة الجديدة. الفرد هنا ليس مساحة خالية تستقبل المعارف الجديدة كما هي بل هو عملية نشطة تقوم بترتيب المعارف الجديدة حسب المعارف والخبرات السابقة.
البنائية بهذا الشكل تدرك أن الطالب والطالبة هم منتجون للمعاني وليس فقط مستقبلين لها. هذه النظرية تدرك الدور الإيجابي للمتعلّم الذي لا يمكن للمعرفة المرور له إلا من خلال مشاركته وفعاليته. هذا التصوّر مختلف جذريا عن التصور التقليدي. التعلّم هنا هو عملية لا خيار لنا حيالها إلا تصور الطالب أو الطالبة لا كأطراف تلقي واستقبال بل كأطراف إنتاج وفعل. معنى إضافي جوهري هو أنه بناء على هذه النظرية البنائية فإنه لا معنى لعملية التعلّم دون أخذ بعين الاعتبار خبرات المتعلمين وظروفهم الخاصة. يترتب على هذا أيضا أنه لا وجود لمعرفة واحدة للكل كما يتصوّر التعليم المركزي التقليدي. لا معنى لتدريس أفراد من بيئات جغرافية وثقافية مختلفة ذات المعلومات بذات الطريقة. الظروف المحيطة بالمتعلمين جزء جوهري من تصميم وتنفيذ عملية التعلّم.
النظرية البنائية أيضا تعيد فهمنا لدور المعلمة والمعلم في التعليم. مع هذه النظرية يتراجع دورهما كما هو متخيّل في التعليم التقليدي إلى دور المشارك والمتعاون بدلا من دور القائد والزعيم الروحي والعقلي. إدراك المعلمين والمعلمات لحدودهم في التعليم يجعلهم يدركون العوامل الأخرى المشاركة. المعلمة هنا يفترض أن تعتني أكثر بفهم طالباتها. فهم خلفياتهن المعرفية والثقافية والنفسية والاجتماعية فالتعليم لن يتحقق إلا من خلالهن.
أيضا المعلم والمعلمة مع فهم البنائية أقدر على تصور الاختلاف والتنوع باعتبار أن في النهاية كل فرد سيعطي معناه الخاص لكل ما يسمعه ويطرح عليه. هذا الواقع ليس فشلا في التعليم أو فشلا في عمل المعلمة كما يتصور التعليم التقليدي الذي يتوقع لصق معرفة محددة بشكل واحد في عقول الطلاب. التنوع والاختلاف في التصور البنائي هو جزء من طبيعة البشر وتعاملهم مع المعارف المحيطة بهم أو المطروحة عليهم. أيضا كما يعبّر جلاسيرفيلد فإن المعلمة والمعلم حين يدركون هذا الطابع البنائي للمعرفة فإنهم يتحصلون على ثقة عالية في قدرة طالباتهم وطلابهم المستمرة على الفهم والإدراك. الخلل في الفهم هنا ليس لأن الطالبة غبية أو مهملة بالضرورة بقدر ما هو خاضع لمدى التواصل بين المعرفة المطروحة مع خبرات ومعارف الطالبات السابقة.
ينقل جلاسيرفيلد عن كانت قوله أن هدف التعليم هو تعليم التفكير وليس تمرين الأفراد على أنماط محددة سلفا. البنائية تجعل فعلا من السؤال الجوهري هو كيف نتعامل مع الأفكار. أو تحديدا كيف نساعد الطالب أو الطالبة على وعي طبيعة التقاء المعرفة الجديدة مع المعارف القديمة والوعي بالطبيعة البنائية للمعرفة. الوعي بالدور الفردي والإيجابي في صنع معرفته الخاصة. هنا يأتي الحوار كالطريق الذي يحترم كل هذا ويجيد التعامل معه. التعليم بناء على هذا التصور هو عمل ديموقراطي اختياري لا يمكن أن يتحقق بدون مشاركة الجميع. المعلم بهذا التصور يتوجه للصف الدراسي ليس لتحقيق المهمة بشكل فردي بقدر ما هو توجه للصف لخلق بيئة تشارك يحقق فيها كل فرد هدفه الخاص من التعليم.
النظرية البنائية ضمن مجموعة من النظريات المعاصرة الأخرى تجعل من الحوار الطريقة الأنسب للتعليم باعتباره بطبيعته يقوم على المشاركة واحترام الطرف الآخر وإعطائه المساحة الطبيعة في عملية التعلّم. الحوار هنا يظهر ليس فقط كواجب أخلاقي كما هو في المقال السابق بل كتطبيق لتصور في التعلّم وطبيعته. هنا برأيي يتحقق للمعلم والمعلمة أساس معرفي بجانب الأخلاقي يجعل من الحوار هو التطبيق المناسب للتعلّم أخلاقيا ومعرفيا. في ذات الوقت أفترض أن هذه الأطر تقدم مساعدة جوهرية للمعلم/ـة والطالب/ـة للدخول في علاقة إنسانية رغم التعليم التقلدي وهذا هو الهدف الأساسي خلف كل هذه المقالات.