"بابا أنا صادقت واحد في سادس"، بوغت الأب، حاول أن يسيطر على ردة فعله، تأمل في وجه ابنه ذي السبع سنوات وسأله بهدوء: "ليه؟"، فأجاب: "لأنه من قبيلتنا" وأنصت الأب لقد كانت حكاية طويلة كيف أنهم ومنذ اليوم الدراسي الأول يتعارفون فيما بينهم ثم يتحزبون وكيف أن ابنه وقع في مشكلة أنه لا أحد في الصف "يرجع " لقبيلته. شعر الوالد بالمرارة فهو لم يربّ ابنه بهذه الطريقة، واحتار: هل يلقي على ابنه محاضرة طويلة في التحذير من التعصب وأضراره؟ أم يجعل المحاضرة في التحذير من صداقة من هم أكبر سنّا؟ لكنّ الوالد اختار حلا أكثر إجرائية فقد دخل مع ابنه المدرسة في الصباح التالي وطلب من المرشد كشوف طلاب فصل ابنه، اطلع على قوائم الأسماء فوجد ثلاثة منهم (يقربون لهم من بعيد) من بعيد جدا ولكن هذا هو المتوفر. ذهب للفصل وتحدث مع الثلاثة عن وشائج الدم التي تربطهم بابنه وطلب منهم أن يصادقوه وسوف يعزمهم على الفطور اليوم وغدا فوافقوا. وخرج الأب من المدرسة بعد أن حذرهم بحزم من مصاحبة طلاب الصفوف العليا.

ياله من موقف صعب ذلك الذي وقع فيه هذا الأب. إذ تحت ظل ثقافة تترسخ أكثر يوما بعد يوم تصبح المدرسة مكانا للتحزب والتعصب بفعل ضغط الأقران. وبدلا من أن تتمثل معايير الصداقة في الهوايات المشتركة كالرسم وكرة القدم، أو في توافق الأمزجة، أو العمر صارت معايير الصداقة: وش ترجع؟ وسوف يكبر هذا الابن ليقول لأستاذه الجامعي: "إيه الله يقطعها دنيا خلّت واحد مثلك يتحكم في مستقبل واحد مثلي!".

لو أن للتعصب حدودا لما اقترب من بيوتنا بين أفراد الأسرة الواحدة، لكنه قد فعل. كانت تتحدث في البداية عن أخوات زوجها بحنق بالغ وامتد الكلام ليتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء ليس فقط عمّات أبنائها ووالدهم كالعادة بل حتى جدّهم، فاستدركتُ عليها :"لكنّه ابن عمّك! " في الواقع وحين أفكر الآن في الموقف أعترف أنني لم أكن أقلّ منها تعصبّا، فبدلا من أذكّرها بأنه زوجها ووالد أبنائها كان وجه اعتراضي أنه ابن عمّها أي أن الغض من نسبه غض منها، أجابتني بحدّة :"يخسى ما هو ولد عمّي القايم.. هو جده فلان.. وأنا جدّي فلان الذي كان.. وكان"، وبدأتْ في اجترار قصص قديمة لشجاعة جدها وكرمه الذي فاق الجميع.

لا حدود للتعصب، ففي المدرسة سوف يبحث الطفل عن أقاربه ولو من بعيد. في دورية الجماعة سوف يتحزب مع أبناء عمه القريبين ضد البعيدين، في بيت الجدّ سوف يكون مع أخيه ضد ابن عمه، وفي البيت.. نعم حتى في البيت إذ لو أن للتعصب حدودا لمّا وقف ببشاعة بين الولد وأبيه. هذا ما يحدث حين ينظر الأب لابنه باستنقاص ويقول له بلهجة ساخرة: "إيه جذبوك خوالك" تعليق يدمي القلب، لكن الابن يتجاهله أو قد يردّ بضحكة بلهاء أو بتعليق وقح :"أحسن من خوالك اللي كأنهم..." أيا كانت الطريقة التي اختارها الابن في الرد فإن الموضوع حساس فعلا وجارح مهما حاولنا وصفها بالنكتة السامجة. لكن هذا ما يحدث حين يصبح التعصب أسلوب حياة، إذ تبدأ بإقصاء الآخرين وإبعادهم عنك حتى تقف وحيدا.. وحيدا تماما فهل هذا ما نريده لأبنائنا؟

ليس من مصلحة المجتمع أن نغرس في أبنائنا الشعور بالتفوق لمجرد انتمائهم لنسب معين. لأننا نرى الآن نتائج هذا النوع من التربية في صورة شاب مترف عاطل دون عمل أو هواية أو رغبة في النفع يتحدث بكل غطرسة عن أصله وخط سير قبيلته منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الحادي والعشرين، وبدلا من أن يخلع معطف التعصب كي يتخفف من ثقله ويتحرك بسهولة أكثر نجده يتشبث بهذا المعطف ويغلق كل أزراره فهو رأس ماله الوحيد.. إنه كل ما يملك في الواقع.

وليس من مصلحة أبنائنا أيضا. فمع التغير الاجتماعي المتسارع تحولت (شجرة العائلة) من كونها شبكة أمان اقتصادية يستظل الفرد بظلها من حين لآخر وتبعث الشعور بالتعاطف والتعاون على الخير إلى كونها حمولة ثقيلة مرهقة يضعها الفرد على كتفه أينما ذهب وتستنزف جهده وتضيّق خياراته في الحياة، وتحجب أغصانها عينيه عن رؤية ما أمامه، وتطرح بذور الكراهية والاستعلاء والكبْر أينما حلّ وارتحل.

وليس ذلك من صالح عقول أبنائنا أيضا، فالتربية على التعصب جريمة في حق عقولهم. التعصب تعطيل للتفكير النقدي. التعصب مصادرة لآراء الآخرين وأفكارهم دون عرضها على ميزان العقل والمصالح العامة لمجرد أن أسماءهم لا تتفق مع أهوائنا. التعصب يحرم الإنسان من الإنصات والتمييز بين الحقيقة والرأي وطرح الأسئلة التي تساعد على الفهم واتخاذ القرارات، إنه يجعلك تقفز لحكم مسبق بمجرد معرفة خلفية المتحدث أو الكاتب. وهذا ما يجعل التعصب أسهل وأسرع وأقل كلفة من التعقل الذي لا يعترف بالإجابات الجاهزة بقدر ما يستثير الأسئلة الصعبة.

التعصب لا يحتاج للكثير من الجهد فهو فعل سالب، مجموعة من الأسماء والصفات التي لا تسهم في عبادة الله ولا عمارة أرضه. و لذا جاء معيار التفاضل في حال يكتسبه الإنسان بعد وجوده وليس قبل ميلاده وهو حال التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) التقوى فعل، إنها بوابة مشرعة لكل الأخلاق الفاضلة التي تسمو بالإنسان والعالم كلّه، التقوى حال قابل للتبدل ويطرأ عليه التغير ولذا فإن المحافظة على التفوق هنا تتطلب العمل والمجاهدة، تتطلب السعي والحركة. بينما النسب صفة، فمنذ الولادة إما أن يقول لك أهلك أنك من العائلة الفلانية وكفاك بهذا فخرا وإما لا.

إن التفكير في علاج التعصب يجب أن يبدأ بالبحث عن جذوره. كيف يبدأ؟ وما الظروف التي تساعد على انتشاره؟ وعلى من تقع المسؤولية في اجتثاثه؟ إن لنا في التاريخ لعبرة: (هتلر) الذي تسبب في إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية كان متعصبا بشدة للعرق الآري ويرى تفوّقه على جميع الأجناس وقام مع حزبه النازي بوضع (معايير) تحدد المنتسبين لهذا العرق وتقصي غيرهم. وللسخرية لم تكن تنطبق عليه تلك المعايير إذ لم يكن ممكنا إثبات أن أجداده الأربعة كلهم من هذا العرق.

التعصب ليس شجاعة، إنه الخوف بعينه. ينتشر التعصب بانتشار الخوف. وحرب البسوس الجاهلية لم تكن بسبب ناقة لقد كانت مذبحة مهلكة سببها الخوف من الفناء والشعور بالاضطهاد وكم يستثير التأمل أن الخوف من الفناء يسبب الفناء. حدث ذلك قبل أن يأتي الإسلام بإقرار قيمة العدل ميزانا بين البشر ومانعا للخوف من الظلم وبالتالي من التعصب. حدث ذلك قبل أن يأتي الإسلام بمبدأ التسوية بين البشر: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).