من المتعارف عليه أن "الدين" حاجة عقلية روحية يعزز وجودها غريزة البقاء مطمئنا في عالم تملأ محيطه الغيبيات والأسرار، كما الأكل والماء يعدان حاجة جسدية تعززهما غريزة الإنسان للحياة، ما يؤكد ذلك، أنه لا يخلو تجمع بشري بأي نقطة جغرافية ودائرة زمنية منذ العصور القديمة وللآن من ممارسة الدين ضمن مقومات حياة الإنسان، وحين نحاول الاقتراب من الأديان الأخرى للتعرف عليها، فإن الهدف أولا هو ترسيخ ديننا "الإسلام" في أنفسنا قبل محاولة دعوة الآخرين إليه أو إلقاء اللوم عليهم لاختلافهم، أو اتخاذ دور المثالي أمامهم.

فلماذا وُجدت الأديان الأخرى!؟ سؤال يمثل نقطة البداية للوصول إلى حوار يتعايش مع أتباع الأديان والحضارات الأخرى، دعاني إلى طرح ذلك المشروع الرائد الذي طرق أبواب العالم من خلال مبادرة خادم الحرمين الشريفين ـ رعاه الله ـ والذي دشن "مركز الملك عبدالله العالمي لحوار أتباع الأديان" منذ أسابيع قليلة في فينا، إنه سؤال يفرض على العاقل توسيع نطاق تفكيره للقاء بالآخر خارج نطاق الدين الواحد عبر اكتشافه، للوصول إلى حفظ دم الإنسان من تعصب يهدره، فالنفس عزيزة عند الله سبحانه وتعالى، فمن قتل نفسا بغير حق كأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعا، فإن كانت هي كذلك عن الله، فأولى أن تكون عند المسلمين قبل غيرهم.

حين تتسع دائرة الحوار من التفكير إلى مرحلة ممارسته من الدائرة الصغرى المتمثلة فيما بين مذاهب الدين الواحد إلى منظومة الأديان والحضارات الأخرى، فهي تصبح محاولة فكرية تصحيحية للآخر خارج الدين الواحد بما يتمتع به الإسلام من قدرة التعايش مع الآخر، هذه حقيقة تاريخية، تؤكدها سيرة وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم العظيمة، ويتأملها ذوو البصيرة في تاريخ انتشار الإسلام، وأنه لم ينتشر كما يردده بعض المتعصبين بالسيف في محاولة لاختطاف هذه القيمة لأهواء تعصبية نفسية، وإنما انتشر في مجتمعات بشرية لم تصلها الفتوحات كإندونيسيا مثلا التي تعد اليوم أكبر الدول الإسلامية بوجود 200 مليون تقريبا، وذلك عبر تعامل وأخلاق التجار والمهاجرين المسلمين مع أتباع الأديان الأخرى بواسطة الحوار، فعرفوا إنسانية الإسلام العظيمة.

و للأسف الشديد ـ قد اعتدنا ـ في الغالب في ممارسة هذا الحوار ضمن دوائره الصغرى المذهبية قبل الكبرى الدينية ـ أن يقوم على نقاط الاختلاف لا التقاء، نتيجة تراكمات تاريخية وتأزمات سياسية كونت تاريخ الحضارات الإنسانية خلال آلاف السنين ـ بحسب وجهة نظري ـ ولهذا علينا عدم تكرار أخطاء السابقين في هذه الممارسة التي كان سقراط أول شهدائها، واستبدالها بمحاولة اكتشاف الآخر لتصحيح المفاهيم المغلوطة بين المتحاورين، بتوسيعها لا تضييقها، ولن يكون إلا بترك تفاصيل الاختلاف ابتعادا عن زيادة الخلاف وتأزم العلاقة والانتقال إلى القواعد المشتركة وتعزيزها بغية التعايش الذي يحفظ النفس أن تهدرها لحظات تعصب ليست من ديننا العظيم.