في رمضان القرية كانت حياتنا كلّها مواقف وحكايات، لكنّ التوقف أمامها في تلك الفترة لم يكن وارداً، والـتأمل فيها لم يكن مقبولاً، فالحياة لا يُلتفت إلى مواقفها إلا بعد أن تقابلها حياة أخرى بمواقف أخرى مختلفة ومتباينة، ولعلّ في مواقفنا تلك ما يماثلها في حياة أبنائنا أو يختلف عنها، وسيأتي يوم لروايتها، فلا تكاد الحياة تنقطع، ولا أخبارها تنتقص.
لم يكن رمضان قريتنا في كلّ عام يعبر دون مواقف تجعلنا نخاتل بها أنفسنا، قبل أن نخدع بها أهلنا، فسنوات ما قبل التكليف الشرعي بالصوم لم تكن تُقْبَل أعذارنا فيها أمام أهلنا، ولا أمام جيراننا الذين يسألوننا بشكل مستمرّ، هل نحن صائمون؟! وإن لم يسألوا فلا غرابة أن يلحظوا ذلك على وجوهنا.
كان عيباً لدى أهلنا إن نحن لم نصم، فقد كان تكليفنا يتمّ برغبة أن نتدرّب على الصوم، فنتعوّد عليه، برغم حرارة الأجواء، ونقص وسائل التخفيف في تلك الفترة الزمنية من الحرارة وربما عدم وجودها.
كان إفطارنا في رمضان عيباً نخاف ارتكابه، لأنّ المصير المعلوم بالنسبة لنا تكليف أسريّ بعمل شاق أو توبيخ، فالصائم منّا يظفر من أهل بيته برأفة لا يكاد يجدها غير الصائم، بأن يُمنح من أهله شيئاً فيخفف عنّا ـ نحن الصائمين ـ الكثير من التكليف في العمل الشّاق.
لم تكن البيوت التي يصوم أهلها في قريتنا تترك في آنيتها ما يشجعنا على الإفطار، أو يدفعنا إليه، فقد كانت بيوتنا لا تسرف في الطبخ، فما يتمّ إعداده في الليل يستعان بالسّحور عليه، فلا يبقى له أثر.
ما زال الفتى القروي يذكر المعاناة التي تصيبه إن رغب في تجاوز صوم يومه بعد صراعه المرير مع الظمأ أو الجوع فلا يقوى فيه على انتظار أو تأجيل، كان يتسلل إلى بقايا طعام ليس كثيراً، أو شربة ماء ربما لا تبلّ ظمأ أوتطفئه، ليقنع نفسه بتجاوز جوعه أو ظمئه، ومن ثمّ يكمل صومه.
كان صومنا في تلك الأيام يُضْرب به المثل، فيقال فلان صائم صوم العضل (الفأر) في القفّة! وهو تشبيه لنا بصيام الفئران التي تتسلل إلى الطعام في مكان حفظه، فلا تكاد تترك له أثراً.