عندما مررت بإحدى الجهات الثقافية النشطة ووجدت أنها ما زالت تستلم الميزانية نفسها منذ عقد من الزمن، وعلى الرغم من ذلك حولها العمل الاحترافي إلى مكان للإشعاع الفكري حتى أصبحت منارة تفخر بها المملكة؛ في تلك اللحظات عادت بي الذاكرة إلى ما ذكره أحد منظمي فعالية ارتدت ثوب الثقافة في سنين مضت، حيث قال إن تكلفة الحفل الافتتاحي وحده "لم تزد على المليون ريال"، وهو في نظره "مبلغ معقول جدا". ولو اتفقنا مع هذا المسؤول على أن مبلغ المليون ريال مبلغ معقول في احتفالية كهذه يحتاج حفل افتتاحها إلى تقنيات حديثة، فإن المشكلة الحقيقية والاختلاف الكبير سيكون في المنتج الثقافي الذي يعقب "ليلة المليون"، فهو لن يتعدى خطب أكاديمية مكرورة منذ عشرات السنين، قيل في موضوعاتها ما يملأ البحر حبرا. بعكس الجهة التي ما زالت تستلم الميزانية نفسها التي كانت تسلم لمنتج واحد، فتحول هذا المنتج إلى أفكار خلاقة وجديدة على الساحة المحلية، أخرجت عشرات المنتجات الفكرية والإبداعية من رحم أم واحدة.
قد يقول قارئ لهذه الأسطر، ما دمت ترى أن تلك الجهة تستحق الثناء وأن ما فعلته نادر الحدوث محليا.. فلماذا لم تذكر اسمها صراحة؟ عندها سأشعر بحالة عجيبة يمتزج فيها البكاء بالضحك، لأن القائمين على هذه الجهة الثقافية لا يريدون أن تعرف وزارة المالية أنهم أنتجوا بالمبلغ نفسه الذي تعطيه لمنتج واحد، عشرات المنتجات في سنتين، فقد تُقلص المبلغ بدلا من أن تزيده بحجة أن نشاطهم واستغلالهم الجيد للميزانية الثابتة منذ سنوات ماضية يدل على أن المخصص أكبر من حاجتهم!
يشهد الله أن هذا التخوف سمعته شخصيا من المسؤول الأول عن تلك الجهة، حتى إنه طلب مني وبشدة ألا أشير إلى موضوع الميزانية فقد تسلب منهم بين يوم وليلة للسبب السابق ذكره.
إذن نحن أمام معضلة فكرية عويصة.. ففي الوقت الذي نحن مستعدون فيه لصرف ملايين الريالات على فعاليات فارغة المضمون قد يدعى لها بعض من يسمون "مثقفين عربا" وهم على الهامش في بلدانهم وخارجها أو أنهم مجرد طالبي مال، فلا يقدمون شيئا يذكر لوطننا أو ثقافتنا. نبخل ببضع المئات من الألوف على مشاريع فكرية جادة لا تكلف إلا فتات فعالية "منزوعة الدسم".