في القوانين الفيزيائية والكيميائية يعد النظام غير مستقر في حال الحاجة إلى كميات كبيرة من الطاقة للحفاظ عليه، يعني أن هذا النظام معرض للانهيار بشكل كامل بمجرد حدوث أي خلل ولو صغيرا في المعطيات التي ثبتته. في السياسة فإن أي نظام يحتاج إلى جهود أمنية مستمرة وكبيرة فهو نظام غير مستقر حتى ولو بدا متماسكاً، ولفترة طويلة لأنه سرعان ما ينهار بشكل سريع وفي كثير من الأحيان مأساوي.

هذا كان ولا يزال واقع الأنظمة التسلطية، ويكفي استذكار المعسكر الشيوعي الذي ظننا لفترة طويلة أنه لا يقهر أو أنه باق لينازل الإمبريالية إلى الأبد، إلى أن انهار بسرعة فاقت كل خيالاتنا.

النظام السوري هو نظام تسلطي، وكانت البداية سنة 1963 عندما قامت مجموعة من الضباط المنتمين إلى حزب البعث بانقلاب دموي قادته ما عرف باللجنة العسكرية التي ضمنت محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، والثلاثة علويون، بالإضافة إلى عبد الكريم الجندي وأحمد المير وهما إسماعيليان، وقد جمعهم خليط من وحشية يسارية وحقد أقلوي، دفعهم إلى مغامرة بدأت بتصفية عشوائية للخصوم، ومن ثم تصفية بعضهم بعضا حتى تفرد حافظ الأسد بالسلطة في حركة سميت "الحركة التصحيحية" في آخر سنة 1970، فأودع صلاح جديد في السجن حتى وفاته سنة 1993، وما لبث أن أصدر الأمر لاغتيال معلمه محمد عمران في منفاه في طرابلس سنة 1972 لمجرد أنه أعلن عن قرار عودته إلى سورية.

استبدل نظام حافظ الأسد توجهات رفاقه السابقين الثورية بنظام جمع التشدد الأمني مع تعميم الفساد كوسيلة متكاملة للسيطرة على مفاصل الحكم. وقد أقصى بشكل حاسم كل منافسيه المحتملين وخاصة ضمن أعيان طائفته واستبدلهم بشلة من الأقرباء والأصدقاء وسيطر بشكل حاسم على كل التفاصيل في الجيش، وأصبحت سورية منذ سنة 1975 عمليا مزرعة لحافظ الأسد ورفاقه. أما حزب البعث فصار حاكماً بالاسم بعد أن أصبحت توصيات مؤتمراته العامة عبارة عن انعكاسات لتوجهات وتوجيهات حافظ الأسد.

بنفس الوقت كان النظام يسمح للأعوان من صغار وكبار بنهب المال العام مع حفظ سجل كل واحد منهم لابتزازه، بملف الفساد كلما دعت الحاجة. ولكن، وبطبيعة الحال، لم يؤد ذلك إلى تثبيت الحكم، فابتداءً من أواخر السبعينات من القرن الماضي أدخل هذا النظام في سورية في حمام دم رهيب وطويل قضى بموجبه عشرات الآلاف من السوريين في مجموعة مجازر موصوفة كانت أكبرها مجزرة حماة في شباط 1982، هذا بالإضافة إلى إعدامات بالجملة للمئات من الضباط واعتقال الآلاف دون محاكمة.

وقد أكمل هذا النظام ملفه الدموي في فترة احتلال لبنان من خلال مجموعة من الاغتيالات والمجازر وحملات التطويع السياسية من خلال الابتزاز والإرهاب، ولم يسلم الفلسطينيون في لبنان من حملات مماثلة أصبحت الآن في ذمة التاريخ.

لقد أتت فرصة حافظ الأسد بعد اتفاق مدريد 1991 لتطوير النظام في سورية من خلال سعي قام به الرئيس الشهيد رفيق الحريري عندما كانت آمال السلام في الشرق الأوسط عالية، وكانت سورية تحتاج إلى الكثير من التطوير الاقتصادي والسياسي من أجل مواجهة المرحلة الجديدة.

رفيق الحريري طرح مع حافظ الأسد بندين، الأول يتعلق بتطوير الاقتصاد في سورية ليخرج من النمطية الشمولية الاشتراكية ويقارب بعضا من اقتصاد السوق بحيث يكون هناك مجال أكبر للاستثمار والمبادرات الفردية وإعطاء فرص للمصارف الخاصة وذلك أملاً في استنهاض اقتصاد كان يعاني على مدى عدة عقود من منطق ما كان يدعي بالاكتفاء الذاتي سيطرة الدولة على معظم وسائل الإنتاج.

تقبل حافظ الأسد يومها هذه الفكرة بحذر والواقع أنه اتخذ بعدها عدة خطوات عرجاء في هذا المجال أدت إلى إنشاء مصارف خاصة وكان للمصارف اللبنانية دور مهم في ذلك.

أما البند الثاني فقد كان البدء بإصلاحات سياسية متأنية باتجاه مزيد من الحريات الفردية والسعي إلى نوع من التعددية لأن إمكانية أي تطوير اقتصادي حقيقي في أي بلد لا يمكن أن تأخذ مداها إلا بظل الانفتاح، أو الوعد بالانفتاح، السياسي. رفض حافظ الأسد هذا الطرح بمجمله واعتبره غير قابل للتطبيق في سورية سارداً المقولات التقليدية ابتداءً بالاحتلال الإسرائيلي والمؤامرات الإمبريالية وطبيعة الشعب السوري (والعربي بالإجمال) وحاجة الأمة إلى القيادة الحكيمة لأن الديموقراطية بمفهومها الغربي غير قابلة للتطبيق في بلداننا!.

في المحصلة، فقد انتقلت سورية إلى نوع من اقتصاد السوق، ولكن وفي ظل نظام سياسي تسلطي أصبحت الأمور تعميماً لفساد جديد جعل من أزلام السلطة ومحاسبيها المستفيدين الوحيدين من عملية الانفتاح الاقتصادي لقد تأمل الكثيرون من السوريين واللبنانيين وربما العالم بوصول بشار الأسد إلى السلطة، ولكن الأمل خاب سريعاً لإدراك وريث عرش الوالد بأن أي انفتاح جدي في السياسة سيؤدي حتماً، عاجلاً أم آجلاً، إلى انهيار العرش تحت وقائع التركيبة السورية وطبيعة تصرفات الناس في ظل الحرية، هذا بالإضافة إلى التعقيد الأهم وهو أن سلالة الأسد أتت لتمثل حلم طائفة بأكملها بالحكم في سورية بعد قرون من التهميش، وربط مصير هذه الطائفة بوجود أو زوال الوضع القائم.

اليوم، وفي ظل تقدم الثورة في سورية، واستمرار الانقسام الدولي حول معالم الطريق، فإن ما ينتظر سورية وربما الدول المجاورة المزيد من المآسي فما يحدث في سورية الآن سيؤدي حتما إلى حرب أهلية طويلة ومكلفة في عدد الضحايا، وذلك لأن النظام لا يزال يحتفظ بورقة اللجوء إلى حصن طائفي يعيد تركيب ما كان يسمى بالدولة العلوية.

صحيح أن هذه النقطة بالذات أخذت الكثير من الجدل في التحليلات المحلية والدولية، وكانت معظم هذه التحليلات تستبعد هذا الاحتمال لأسباب متعددة ومن ضمنها الخليط الطائفي في المدن الأساسية وعدم وجود قرار دولي وغيرها من الأسباب. ولكن ماذا لو استمرت دورة العنف وأصبحت المجازر متبادلة بعد أن كانت حتى الآن بحق طرف واحد؟ ألن يؤدي ذلك إلى موجة كبرى من الفرز السكاني مما قد يؤدي إلى أمر واقع جديد قد يفرض حلولا على أساسه؟ بالطبع هذا يعني مئات الآلاف من الضحايا وأوضاعا كارثية لن تنجو منها بعض دول الجوار، وهذا بالضبط ما يراهن عليه بشار الأسد للاستمرار إلى النهاية التي يعتقد أنها لن تأتي.

قد يكون المخرج بقيام انقلاب من ضباط من طوائف متعددة مع وجوه علوية مؤثرة لقيادة سورية نحو مرحلة جديدة بأقل الخسائر الممكنة ولكن الإمكانية لحصول ذلك بدأت تتضاءل مع أن الأمل لا يزال قائما.