تظل إشكالية الإسلام السياسي من أكثر الإشكاليات إغراء للبحث من قبل المفكرين العرب والغربيين، وخاصة في هذا الوقت، حيث تتصاعد موجات الأصولية الدينية/السياسية، التي انطلقت أساسا عندما تمَّ تسييس الإسلام تسييسا حزبيا وعقائديا من قبل "جماعة الإخوان المسلمين"، منذ العام 1942، عندما ترشّح حسن البنَّا مرشد "الإخوان المسلمون" للانتخابات النيابية في مصر، وتراجع بعد ذلك، نزولا عند رغبة ونصيحة رئيس الوزراء آنذاك (مصطفى النحاس باشا) الذي نصح "الإخوان"، بأن يبقوا هُداة لا قُضاة. وهذا ما ردده فيما بعد مرشدهم المستنير حسن الهضيبي، ولكن ما من مجيب. فإغراء الكراسي السياسية، لا يقلُّ قوة وتأثيرا عن إغراء النساء للرجال.

وإذا كان هناك عاملان حاسمان في تشكيل التاريخ البشري فهما: السياسة والجنس، ويضاف لهما المال.

أهداني صديقي الراحل محمد الشرفي المفكر التونسي الليبرالي، ووزير التربية والعلوم السابق، كتابه (الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي) الذي سبق وصدر بالفرنسية، ثم تمّت ترجمته إلى العربية.

والمفكر الشرفي صاحب تاريخ طويل في السياسة، والثقافة، والتعليم التونسي. وكان من العقول السياسية والتربوية اليسارية البارزة في تونس، في حقبة ما بعد بورقيبة، كما لعب دورا مهما وتاريخيا في إصلاح التعليم التونسي، وإصلاح التعليم الديني التونسي، خاصة ما يتعلّق بإعادة هيكلة مناهج التعليم في "جامعة الزيتونة" الدينية، التي تُعتبر أقدم جامعة دينية إسلامية في العالم، مما أثار عليه حفيظة المتشددين التونسيين. وقد أثمرت جهود المفكر الشرفي التربوية والتعليمية الإصلاحية، إلى أن تصبح تونس الآن، النموذج العربي المُحتذى في الإصلاح التعليمي والتعليم الديني، على وجه الخصوص.

أنا، من أسوأ النقاد في عرض الكتب عرضا صحفيا، فلهذا فنه وطرائقه التي لا أُجيدها، رغم أنني ناقد أدبي، جئت من النقد الأدبي إلى النقد السياسي، وحالي في ذلك حال طه حسين، والعقاد، ولويس عوض، وسيّد قطب، وغالي شكري، ورجاء النقاش، وغيرهم. فأنا لا أجيد العرض بقدر ما أجيد النقد، ولهذا استطعت كتابة ستة كتب في نقد الشعر، وستة كتب أخرى في نقد الرواية، وكتابين في نقد القصة.. الخ.

لن أعرض كتاب (الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي) عرضا صحفيا، ولكني سأنقد بعض أفكاره. سآخذ لُباب الكتاب وأتحدث عنه، علما بأن كتاب الشرفي كله لُباب، من لم يأخذه كله، فاته كله.

يتألف كتاب الشرفي من أربعة فصول مهمة وحساسة هي: الأصولية الإسلامية، والإسلام والقانون، والإسلام والدولة، والتربية والحداثة. وكل فصل من هذه الفصول العامة والشائكة والمتفرعة والجدلية، يحتاج إلى كتاب كامل كي يناقشه، ويلمّ بأطرافه التي شغلت الفكر العربي الإسلامي، منذ العصر الأموي حتى الآن.

وأهمية كتاب محمد الشرفي، أن مؤلفه يكتب فيه من خلال التجربة، وليس من خلال النظر فقط. لذا، نرى أن في الكتاب أمثلة تونسية كثيرة، واستعراض لتطبيقات تونسية في التربية والتعليم، عاشها وخبرها، بل وشارك في هندستها وإقامة صرحها محمد الشرفي، أثناء توليه لوزارة التربية والتعليم التونسية (1989-1994)، ومن خلال رئاسته لجمعية حقوق الإنسان التونسية، ومن خلال ممارسته كأستاذ في كلية الحقوق في الجامعة التونسية كذلك.

إذن، نحن أمام مؤلف جمع المجد الفكري من طرفيه: طرف النظر، وطرف التجربة الواقعية الطويلة. في فصل "الأصولية الإسلامية" وكنت أفضل أن يكون عنوان الفصل: "الأصولية الدينية/السياسية" فذلك عنوان أدق. لأن الأصولية لا توجد في الإسلام فقط، بقدر ما توجد في كافة الأديان السماوية. وصحيح ما قاله الشرفي، أن سرعان ما تبين للجميع أن "الأصولية الإسلامية"، إنما هي مشروع سياسي قد يكون مدخلا للعنف، والرعب، والظلم. وأن اللجوء إلى العنف باسم الدين، ليس أمرا نظريا، بل إن سلوك المتشددين سواء كانوا في صفوف المعارضة، أو كانوا في السلطة، سلوك مُفعمٌ بثقافة العنف. ويخلص الشرفي في هذا الفصل إلى نتيجة أن "اللجوء إلى العنف باسم الدين ليس أمرا نظريا. "ويضرب لنا الشرفي أمثلة على ذلك من إيران والسودان ومصر والجزائر وغيرها. ويخلص الشرفي إلى القول إلى أن "مُشكل العالم الإسلامي هو غياب الوضوح في خصوص المسألة الجوهرية المتعلقة بالعلاقة بين الإسلام، والقانون، والدولة".

كان مطلب تخليص الإسلام من المتشددين، مطلبا متداولا وملحا، منذ مطلع هذا القرن، مع ظهور وانتشار الفكر العَلماني على أيدي رواد الحداثة العربية في مطلع القرن العشرين، بقيادة شبلي شميّل، وعبدالرحمن الكواكبي، وإسماعيل أدهم، وفرح أنطون، وسليم وسليمان البستاني، وعبدالعزيز الثعالبي، ثم طه حسين، ومحمد حسين هيكل، ومنصور فهمي، ولويس عوض، وغيرهم.

فقضيتنا الكبرى كما يقول الشرفي في فصل (الإسلام والقانون) هي السجن الجماعي، الذي أودعنا فيه أنفسنا بأنفسنا. فلا تطور لنا، دون حرية، ولا حرية دون الإفلات من هذا السجن التاريخي. والمعركة الملحة اليوم، هي الحرية والاجتهاد في فهم الدين. وهذا يعني إلغاء دور المتشددين، الذين يرمون كل مجدد، ومجتهد، بالردة التي تهدد حياته، باعتبارها أداة ظلت مستعملة حتى الآن، لمنع كل تفكير قد يؤدي إلى التجديد والابتكار. ولعل القول بأن "ما أغلقه السلف لا يفتحه الخلف" هو تلخيص لمشكلة الحرية الكبرى في التفكير المعاصر. فشرعية المتشددين، نابعة من كونهم محسوبين على احتكار الحقيقة. ومن هنا، حرص المتشددون دائما على ربط القواعد التي ابتدعوها بالتعاليم المطلقة، حيث إن مهمتهم محصورة في تأويل هذه التعاليم.

وما زال في هذا الكتاب المهم، طروحات أخرى، ربما عدنا إليها مرة أخرى.