هناك أشياء كثيرة في ذاكرة الفتى القروي تصل الذاكرة بالقلب مباشرة، لا يكاد يتذكّر شيئاً منها إلا وتختلط مشاعره ببعضها، فلا هو يعلم أيبكي أم يضحك؟!
في رمضان القرية هناك تعلق وجداني كبير بأصوات معينة، وأحاديث، ومواقف، وربما أفعال وممارسات.. لا أقول إن هناك طقوساً ما كانت تشغل الفتى القروي ورفاقه، فلم تكن هناك تعبئة تسبق الشهر ولا تعبئة تتخلله ولا تعبئة تأتي بعد رحيله، فقد كانت الحياة في القرية تمر طبيعية لا تكلف فيها، ولا تصنّع. لم تكن هناك أشياء بعينها تملؤه في وقتها ولا حتى تستوقفه، لكنها اليوم تعيده رغماً عنه إلى ذاكرة توجعه وتدهشه.. بل تأخذه إلى أبعد زاوية من زوايا الحياة، كي يتأملها أكثر فأكثر!
في وجدان الفتى القروي ورفاقه أصوات أئمة المسجد الحرام كالشيخ عبدالله الخليفي وعبدالله خياط وعلي جابر يرحمهم الله – حين كانت تلك الأصوات تعلو وتخفت في كل زاوية من زوايا القرية، فلا تكاد تنقطع في ليالي رمضان.. والفتى القروي ورفاقه ينتقلون بين بيوت القرية، كانت تلك الأصوات تتّحد في موجة واحدة، وأثير واحد! كنّا نسمع لها بحب، ونتطلع إلى رؤيتها في ليلة رمضانية، والوقوف خلفها في وقت كانت الزيارة فيه شبه مستحيلة. لم تكن زيارة مكة المكرمة في تلك الفترة سهلة وميسورة كاليوم، فلم نعلم أن في قريتنا مقتدراً يمكنه مغادرتها في رمضان أو حتى فكّر في الابتعاد عنها ولو في زيارة إلى البيت الحرام.. كانت زيارة واحدة في العمر حجاً وعمرة غاية ما يستطيع عليه كبار قريتنا رجالاً ونساء..
كنا نعيش أجواء صلاة العشاء والتراويح دون أن نشاهد الإمام والمصلين، فقد كان صوت الإمام يصلنا عبر أثير الإذاعة، لم يكن خيالنا يسعفنا كثيراً في تخيّل صورته ولو بشكل تقريبي، مع أنّها كانت أكثر شيء يشغلنا في ذلك الزمن، مع صوت المؤذن الجهوري في مكة المكرمة حين يعلو خلف الإمام في صلاتي العشاء والتراويح! كانت القرية في زمن البراءة مؤمنة صادقة، لا تسأل عن حكم، ولا تبحث عن فتوى، لكنّها تعيش حالة مختلفة من الهدوء والسّكينة والدعة!