انتهت اللجنة التأسيسية من التصويت على مسودة الدستور المصري المقترح، وقامت بتسليمه لرئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي، وأعلن الأخير أنه سيُجرى اقتراع شعبي على الدستور بعد خمسة عشر يوما من استلامه. ويأتي هذا الحدث في ظل انقسامات واستقطابات حادة يشهدها المجتمع المصري، فالحركات السياسية، منقسمة بشكل حاد، بين موالاة ومعارضة. ويمكن القول، بشكل أدق إن حركات الإسلام السياسي تقف في جبهة واحدة فيما يتعلق بالدستور المقترح، وبالخطوات السابقة، التي أقدم على اتخاذها رئيس الجمهورية. وفي مقدمة الخطوات التي أقدم عليها الرئيس مرسي، في الأيام الأخيرة، وتسببت في مضاعفة الانقسام إعلانه الدستوري الذي فوض الرئيس بموجبه بالتفرد باتخاذ القرارات، وحصن نفسه من أية محاسبة قضائية، لحين إقرار الدستور والاقتراع الشعبي عليه.. حينذاك، سيسلم الرئيس هذه السلطات لمجلس الشورى الذي يستحوذ الإخوان المسلمون على غالبية المقاعد فيه.

وفي هذه الاصطفافات يطرح كل فريق مبررات منطقية للدفاع عن موقفه. وهذه المبررات رغم صحتها، لكنها تطرح مشكلة حقيقية، هي أن انتصار أحدها، يعني في واقع الأمر إقصاء للآخر.

فمبرر الرئيس، في إعلانه الدستوري الأخير، هو أن المحكمة الدستورية العليا التي اعترضت على عزله للنائب العام، وذلك حق تمتلكه بموجب استقلالية القضاء في مصر، يمكن أن تقف سدا مانعا دون اتخاذه لقرارات أخرى. ويطرح في معرض اعتراضه على قرارات المحكمة الدستورية العليا، أن المحكمة ذاتها هي من نتاج عهد الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، الذي قامت الثورة بهدف تنحيته، وتغيير إرثه. وفي هذا السياق، يؤكد أنصار الرئيس، أن أية ثورة، ينبغي أن تمر بمرحلة استثنائية، تتخلص فيها من تركة الماضي. وأن العهد السابق، لا يمثله الرئيس وحده، وعملية تنحي الرئيس مبارك عن الحكم هي خطوة أولى على طريق طويل، يقتضي تغيير بنية النظام القديم بالكامل. ويتهم هؤلاء من يعترضون على خطوات الرئيس بالانتماء للنظام القديم ويوصفونهم بالفلول.

ويستثمر أنصار مرسي، انتماءه لحركة الإخوان المسلمين، التي هي بالأساس حركة دعوية، كذريعة للتشكيك في التزام خصومه بالإسلام. فالإخوان المسلمون، هم الدعاة إلى الله وإلى دين محمد، ومن يعترض عليهم إنما يعتدي على الشرع، وبهذا يقسم المجتمع إلى فسطاطين: فسطاط المؤمنين، وهم المؤيدون لسياسات الرئيس مرسي، وفسطاط المشكك في إيمانهم، والمكفرين أحيانا، وهم المعارضون لسياساته.

أما المعارضون لسياسات الرئيس مرسي فيطرحون أن ما أقدم عليه الرئيس مرسي، منذ وصوله إلى السلطة، هو "أخونة" المجتمع المصري، وأنه لم يتصرف كرئيس لكل المصريين، بل كقائد في حركة الإخوان المسلمين، ويدللون على ذلك، بتغييره لبنية الصحافة والإعلام، وتقنينه للحرية الفردية، والتعرض بالتشهير لنجوم الفن، وإجراء تغييرات جذرية، في البنية البيروقراطية، لصالح تسليم أعضاء حركة الإخوان مهام قيادة المجتمع والدولة في معظم المحافظات المصرية. إن الثورة، قامت بالأساس للقضاء على التفرد بالسلطة، وإنهاء الحكم الشمولي، وتحقيق الديموقراطية، وإن خطوات الرئيس تنسف مبررات الثورة من أساسها. ويتهمون الرئيس بمعاداة الديموقراطية التي تمثل الحرية واستقلال القضاء والفصل بين السلطات.. أركانها الرئيسية.

ويرفض المعارضون لسياسات الرئيس، إجراء الاقتراع على مسودة الدستور الجديد، لأن من صاغه، من وجهة نظرهم، هم تكتل الإسلام السياسي، ولم تضم اللجنة التأسيسية لصياغته ممثلين عن الحراك المدني في المجتمع المصري. وهو على هذا الأساس، ممثل لفكرهم في روحه ونصوصه. ويتوقعون أن الاقتراع عليه سيتم بـ "نعم"، بسبب إحكام الإخوان المسلمين قبضتهم على مختلف مفاصل الدولة، وعمق حضورهم في مختلف المحافظات، نتيجة للتغييرات الهيكلية التي أجراها الرئيس مرسي. ويذكرون بالنتائج التي تعود المصريون على استقبالها، عند أي انتخابات أو اقتراع على تعديلات دستورية في ظل النظام السابق، والتي كانت تتجاوز الـ 99%.

لقد بلغت الانقسامات والاصطفافات السياسية في المجتمع المصري مستوى غير مسبوق، فخلال أسبوع واحد، شهدت مصر تظاهرتين مليونيتين في ميدان التحرير، في قلب القاهرة، عبرت عن مواقف المعارضة. وتظاهرة أخرى أمام جامعة القاهرة، مثلت المؤيدين للحكومة. وقد شاب الحراك السياسي الأخير، حالة عنف أدت إلى مصرع عدد من المشاركين في الاحتجاجات، وجرح المئات منهم. والأمور مرشحة لمصادمات ومواجهات أكبر، حيث لا يبدو في الأفق، ما يشي باقتراب التوصل إلى حل للأزمة.

قراءة هذه الأحداث، لن تكون دقيقة وممكنة دون وضعها في السياق التاريخي، والعودة بها إلى الظروف والاصطفافات والتحالفات التي ارتبطت بثورة 25 يناير، وما تلاها من تطورات.

فقد فاجأ زلزال يناير، معظم المصريين، ومن ضمنهم مختلف القوى السياسية التي لم تتحسب لهذه الانتفاضة العفوية. واقع الحال أنها حتى لو أدركت ذلك، لن تمتلك التأثير فيما يجري، بعد أن جرفت من قبل النظام السابق، ولم يعد لها عمق يذكر في المجتمع المصري، ولذلك لم يكن لها سوى الالتحاق بالميادين التي تجمع فيها المتظاهرون بالمدن الرئيسية، وفي المقدمة ميدان التحرير في قلب القاهرة.

القوى التي تصدرت المشهد في ميدان التحرير هي قوى شبابية، لم تمتلك من الخبرة السياسية ما يعينها على اكتساب القيادة بعد تنحي الرئيس مبارك.. يؤكد ذلك مراجعة الأسماء التي تصدرت قيادة مجموعة خالد سعيد، وحركة 6 أبريل الشبابية، فمعظم هؤلاء في مقتبل العمر، ولم يمتلكوا خبرات سياسية سابقة. التحقت بهم فور انطلاق التظاهرات قوى سياسية تقليدية ضعيفة في إمكاناتها وعمقها الشعبي.

وعمليا لم تكن هناك قيادة ميدانية لما أصبح متعارفا عليها بثورة 25 يناير. ويمكن تقسيم القوى الحقيقية الفاعلة والمنظمة آنذاك بالمجتمع المصري، إلى ثلاث قوى. الأولى هي قوة الحزب الحاكم، الذي يقوده الرئيس الذي جرت الانتفاضة ضد حكمه، وهو الحزب الوطني، وتمثل قياداته بحكم هيمنتها على مفاصل الدولة واستغلال هذه الهيمنة لصالحها وإدارتها للحكم في البلاد، قوة اقتصادية حقيقية بالمجتمع المصري.

القوة الثانية هي الجيش، وهو بخلاف معظم الجيوش في العالم، ذو خبرة سياسية. فمنذ ثورة عرابي، لعب الجيش دورا بارزا في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، وفساد البلاط، وتمكن من الاستيلاء على السلطة في 23 يوليو 1952. وقد مكنته مواجهاته المستمرة مع العدو الصهيوني من اكتساب مشروعية على المستوى الشعبي والرسمي في الوطن العربي، ساعدت على امتلاكه شرعية، مكنته من احتكار السلطة في مصر، لأكثر من خمسة عقود، حتى انتخاب الرئيس الحالي، محمد مرسي.

القوة الثالثة، هي حركة الإخوان المسلمين، وتأسست عام 1929، كحركة دعوية في مدينة الإسماعلية، بزعامة الشيخ حسن البنا، ثم ما لبثت أن تحولت إلى حركة سياسية دخلت في صراعات عنيفة مع حزب الوفد. وبعد 23 يوليو 1952، أملت أن تتسلم السلطة من خلال تحالفها مع الجيش.. فشلت الحركة في ذلك ودخلت في مواجهات عنيفة مع المؤسسة العسكرية، وأعدم كثير من قادتها ودخل عدد منهم السجن، وهربت أعداد إلى خارج البلاد. لم يسمح للحركة، في عهد الرئيس مبارك بالعمل السياسي العلني، ولكنها بقيت نشطة وقوية، وتمكنت من الدخول تحت "يافطات" أخرى إلى البرلمان المصري.

هذه المقدمة تنقلنا إلى الأحداث التي جرت بعد 25 يناير، وكيف أثرت هذه التركيبة على التطورات اللاحقة، وذلك ما سوف نناقشه في حديثنا القادم بإذن الله.