لافظ بن لاحظ كان شيطانا لامرئ القيس، ومسحل السكران بن جندل كان شيطانا للأعشى الكبير، وهادر كان شيطانا للنابغة.
لابأس، فأولئك كانوا "جاهليين"، ولم يصلوا إلى ما وصلت إليه الإنسانية اليوم من معرفة وإيمان بقدرات الإنسان، لكن ما عذرنا الآن، ولماذا بقينا نتوهم أن لكل شاعر جنياً، وأن لكل مريض ساحراً؟
يتعلق المجتمع بالأوهام إلى الحد الذي تلتبس فيه الحقيقة بما يتنافى معها، وتلك مشكلة ثقافية في المقام الأول؛ لأنها تشي بحالة من العجز المؤدية إلى التعلق بالوهم، ليكون القوة الخارقة التي نعجز عن مقاومتها.
وحين نقول: إن المشكلة هنا مشكلة ثقافية، فهي كذلك لتعلقها بنقص الوعي، والبعد عن العلم بمعناه التطبيقي، لا معناه المعرفي المجرد، مما يدل على عجز عن التحليل، وتكاسل ذهني عن ربط ما يحدث للإنسان بأسبابه الموضوعية، أو ـ بتعبير آخر ـ البعد عن "التبصر" و "البصر" بصفتهما إعمالا للعقل، لا تعطيلا له، كما هو الحال في ربط الأحداث والتطورات التي تطرأ على الشخصيات، بكل ما هو خارج عنها، وبكل ما هو بعيد ـ البعد كله ـ عن المعطيات الحقيقية المؤدية إلى الفشل أو المرض أو العارض الدنيوي.
العقل العربي يعلق ما يعجز عنه، أو يراه خارقاً، بالخارق الذي يعجز عنه، حتى صار لكل شاعر قرين من الجن يُعرف باسمه، ولكل حادث فاعل مجهول لا يُعرف منه أو عنه إلا ما وقر في الأذهان.
نكبل أنفسنا، ونلغي عقولنا، حين يكون كل حادث في حياتنا مرتبطاً بالسحر والعين والأحلام والنجوم، وكأنه لا قدرة لنا، ولا عقول، ولا واقع، ولا إرادات، ولا حلول، ولا محاولات، سوى اللجوء إلى ساحر مضاد للسحر، أو مشعوذ مضاد للعين، أو مفسر يرسم لنا خريطة ما هو آت في أيامنا المقبلة، بناء على ما رويناه أو رأيناه أو توهمناه.
إليكم الأمثلة، وانظروا حولكم وفيكم، لتجدوها في كل بيت، وفي سياق كل حديث (مع الإيمان بأن العين حق والسحر موجود):
- طالبٌ كان متفوّقا، ثم آل إلى الفشل، لسببٍ أو آخر. تفسيرنا السريع والوحيد ـ غالبا ـ لما صار عليه وإليه هو أنه أصيب بعين "ما صلت على النبي"!
- رجلٌ أصيب بعجز جنسي، لسبب عضوي أو آخر. تفسيرنا الوحيد والغالب لما أصابه هو أنه مسحور من رجل كان ينوي خطبة زوجته، أو من امرأة كانت تتمناه!
- قنوات فضائية تقتات على أحلام الناس، فيزداد متابعوها، ومفسرون لا يعجزون عن تفسير حلم، وحالمون لا يتوقفون عن البحث عن المفسرين، حتى بات نصف المجتمع يحلم، ونصفه الآخر يفسر!
كلما أو غلت المجتمعات في تعطيل العقل، زاد تعلقها بالوهم، وكلما تخلفت عن مسايرة الركب الإنساني الذاهب إلى الأمام، نسبت كل شيء إلى ما تعجز عن تفسيره، ليكون العجز عن التفسير تفسيراً، وتبدأ مرحلة الحياة داخل أسوار الوهم، وتلك أدنى درجات استثمار العقل الذي وهبه الله للإنسان لإعماله، لا لتعطيله وتكبيله.