كلّ يوم نفتح أبوابا عديدة تُصادفنا.. باب البيت.. الشقة.. المكتب.. السيارة.. أبواب كثيرة جدا نمرّ خلالها إلى أماكن أخرى، لكن هذه الأبواب الموصدة وتقف كحاجز أمامنا، تفتحها مجرد مفاتيح صغيرة جدا عبر ثقب ضئيل جدا في أجوافها!
جميعنا يشرب الماء يوميا ونراه بلا لون وبلا طعم ولا رائحة.. الفرق الوحيد بيننا هو ذلك الإحساس حين نبتلع أول رشفة منه.. هناك من يشربه دون محاولة للإحساس بطعم ما، يعده حاجة عضوية "تنشرب" وتروي و"السلام"! وهناك ـ ربما ـ من يجد فيه المتعة حين يتأمل قيمة الحياة في لحظة تناوله الماء، فيشعر بطعم كالمعجزة تسري في خلاياه الحمراء، وإحساس يصنع الفرق بالانتعاش والامتنان، الأمر ذاته حين يرى بعضنا نملة، مجرد نملة تدبّ في الأرض الواسعة بين أقدامنا العملاقة، تشق طريقها حيث رزقها، فتُوحي لأحدنا بإلهام ما كي يفعل مثلها، فيما آخر يتنامى إحساسه بالخوف من قطع طريقها فلا يؤذيها بصوت دهس حذائه، بينما آخر يلقي عليها نظرة، ودون مبالاة بقيمة حياة وهبها الله لها، يدهسها رغم أنها لم تؤذه وذنبها أنها بحثت عن رزقها في أرض واسعة بين قدميه!
الموقف ذاته حين يمرّ أحدنا بوردة ما، هناك من يشعر بجمالها ككائن يشعر بالنعاس مساء وتغمض أوراقها ليلا وتتنفس كل صباح، مثله تماما، يداعبها بنظرة تشعره بجمالها وإحساسه بالامتنان لله تعالى أنه عاشها رغم مصاعب حياته، في الوقت نفسه يمرّ آخر بذات الوردة، دون التفات لها، وإن التفت لم يشعر إلا برغبة في قطفها ثم يرمي بها كي تُدهس على الإسفلت!!
والفرق واضح في كل ما مضى! والأمر نفسه يتكرر بيننا جميعا، حين نستيقظ صباح كل يوم، وحين ننظر إلى السماء يوميا ونحن نخرج من بيوتنا..حين نلقي بنظرة إلى غيماتها.. إلى النهار.. إلى لحظة غروب الشمس وهي ترمي بقميصها المغنج على وجوهنا.. إلى المساء، إلى القمر، إلى النجوم... حين يتناول بعضنا القهوة أو الشاي أو حتى حبات العنب السكري، أو عندما نذر شيئا من الملح على طعامنا، وحين نستمع لصوت ما كعصفور يغرد أو برق يبرق أو مطر يهطل أو حتى حين نقرأ كتابا.. حين نصافح الآخرين.. حين نتحدث عبر الهاتف النقال.. جميعنا يفعل الأشياء ذاتها يوميا، يهضم ذات الهموم الاجتماعية ويناقش وجهات نظر متباينة مع الآخرين، لكننا نختلف في مجرد الإحساس بها ورؤيتنا لقيمة الأشياء حتى إدراك الفرق بحاجتنا لها وحاجة الآخرين..الإحساس بجمال القبيح منها وعظمة الضئيل فيها..إنه مجرد إحساس بالمُهمش قبل المسيطر في محيطنا، هو من يصنع الفرق بين إنسان حي وآخر ميت يمشي كلاهما على الأرض ذاتها.
إنها ببساطة طريقة رؤيتنا وإحساسنا بالأشياء.. مفتاح صغير جدا لفتح باب الفهم لعالم ضخم جدا، و"يا له من عالم رائع" كما يقول الصوت الأميركي المدهش" لويس ارمسترونج" هنا.
http://www.youtube.com/watch?v=HPcgM1MnDnI