إذا لم يكن الآن هو الزمن الأنسب عربيا للقول بأن المشكلة الكبرى لدينا هي مشكلة في الثقافة العربية، بمختلف موروثاتها، وبمختلف قيمها، فمتى سيمكننا أن نقول ذلك.
من الواضح أن فيس بوك وتويتر وطفرة الاتصالات والقرية الكونية واللحظة الكونية والتفاعل مع العالم، لم يكن بالنسبة لنا إلا وسائل فقط، لكنها لم تؤثر في القيم والأفكار، بدليل أنها لم تؤثر في النتائج، فمنذ جلاء الاستعمار عن البلدان العربية لم يمر حدث ولا تحول ضخم كما هو الواقع في التحولات التي أحدثتها الثورات العربية والتي أعادت تشكيل وسقوط أنظمة وخرائط سياسية واسعة في المنطقة.
المشكلة أننا استقبلنا الربيع العربي وفرح به البعض كما كان يفرح الأعراب القدماء بنبوغ شاعر أو فارس لديهم، لقد استقبلناه كأنه مطر مفاجئ أو عاصفة مباغتة وأخذنا نقرأه بمزيد من الاستبشار وكأنه ينبوع تفجر في أرض عطشى، أو كأنه نبوغ مفاجئ لموهبة ما. لكن حتى وإن كان هذا صحيحا إلا أن التاريخ والواقع والعقل والمنطق كلها تؤكد أن الثورات ليست هبوبا مفاجئا ولا أحداثا مباغتة، بل هي عبارة عن مشروعات تبدأ في الوعي وتنتهي في الواقع.
إذن فلا مبالغة إذا قلنا إننا لم نكن أمام ثورات حقيقية رغم كل التحولات التي مرت بها المنطقة، لأن جميعها عبارة عن تحولات سياسية لا ثقافية ولا اجتماعية ولا معرفية، هذا القول يستدعي تعليقات ساخرة من قبيل أنه مجرد تثبيط للواقع العربي الجديد أو هروب من المواجهة، لكن النتائج الآن تؤكد ذلك.
كيف انطلت علينا فكرة جيل جديد ووعي جديد، وأصبحنا نرددها ليل نهار، ونغني بها على رؤوس الأشهاد متناسين تماما أن التحولات الثقافية الحقيقية لا تأتي بغتة هكذا، كنا نتحاشى ونحن نهلل لثورات (الربيع العربي) أن نتناول الثورة الفرنسية مثلا، لأنها كانت تدخلنا في شيء أشبه ما يكون بالمقارنة بين مطار صنعاء ومطار شارل ديغول. ولذلك حرصنا على اصطحاب حالة من العمى النظري ونحن نشيد بالحريات والكرامة والعزة والمساواة والحقوق التي ظهرت فجأة في واقعنا العربي، غير مدركين أن الوصول إلى تحقيق هذه المعاني السامية مرتبط للغاية بالتحولات الثقافية الحقيقية.
الجوانب الثقافية التي شهدت تغيرات في المجتمعات العربية تكاد تكون محدودة للغاية، وهي تغييرات أحدثتها الوسائل ولم تحدثها الأفكار، فسقوط النخبة مثلا، وتحول العامة من حيز الاستقبال والتلقي من تلك النخبة إلى حيز الاشتراك في الإرسال، وسقوط المؤسسات الثقافية، وبروز وسائل الإعلام العامة وما أحدثته من تغير في سلوك الجماهير، كلها مظاهر ومتغيرات تمت في السلوك المعرفي ولكنها ليست في المعرفي ولا في الوعي.
إذن فنحن أمام تحولات جزئية، تكاد تتلخص في الجوانب الإعلامية والسياسية وهي تحولات في الفعل وفي الحدث ولكنها ليست في النتيجة.
ما أسهل أن يرد أحد الآن على كل الكلام السابق، ليقول بأن دولة تحت حكم ديكتاتوري لمدة ثلاثين سنة لا يمكن أن تتخلص منه في سنة أو سنتين، هذا كلام جيد لكنه غير صالح لمقارعة أن لدينا واقعا ثقافيا لم يشهد أية ثورة حقيقية، لأن السؤال: ما الذي حدث أصلا لنقول بأننا تجاوزنا كل العيوب التي كانت قائمة في تلك الحكومات الديكتاتورية، ما التحول الكبير الذي سيمكن من خلاله أن نقول أن دولة كمصر مثلا ودعت زمن الاستبداد وغياب الحريات وانتقلت إلى زمن الديموقراطية؟ في الواقع لا شيء. فما الفرق بين مرسي ومبارك، وما الفرق بين الحزب الوطني وبين حزب الحرية والعدالة، وما الفرق بين خطاب مرسي أمام محيط الاتحادية بعد الإعلان عن الدستور، وبقية خطابات الزعماء العرب الذين قامت الثورات للتخلص من حكمهم؟ الذي حدث أن نوعا من تبديل الأدوار تشهده مصر، وتشهده غيرها من البلدان العربية لكنه لا يعدو كونه تغيرا في الواقع السياسي فقط.
كم هو محبط هذا الرأي، ولكنه هو الواقع، إذن تعالوا لنبحث معا ولو عن نصف ثورة...: هل لا بد للثورات الحقيقية من تحول ثقافي؟ ليس بالكامل. لكن الشباب الذين خطوا في مصر أولى خطوات الثورة، حتى وإن صحت تسمية ما حدث بالثورة إلا أنها تمت في مجتمع غير ثوري، ولذلك أعادت العيوب والأزمات إنتاج نفسها، ما تحتاجه مصر الآن هو إدارة وليس رؤية ثقافية، وتلك الإدارة بحاجة إلى كوادر متخلصة من كل عيوب الاستبداد ومن ذكرياتها معه، ولقد بات واضحا للغاية أن الإخوان ليسوا كذلك.