الكثير من أولياء الأمور ممن يهتمون ببناء الشخصية المتكاملة لأبنائهم، يشتكون من أن ما يقدم في مجال التربية والتعليم في بلادنا لا يعمل على مستوى طموحاتهم وآمالهم في التوصل للشخصية القادرة على البناء والتكيف وبنفس الوقت على مستوى عال من "الجهوزية" للتنافس في الحياة العملية محليا وعالميا.. لديهم مخاوف، وهذا من حقهم، ولكن ماذا عن البقية ممن يرغبون فقط بتأهيل أبنائهم لسوق العمل من أجل تأمين العيش الكريم؟ المثقفون من ذوي الدخل فوق المتوسط والمرتفع لديهم رفاهية البحث بين المدارس الخاصة والعالمية لانتقاء أفضل الموجود، والعمل على الارتقاء بقدرات ومعلومات أبنائهم من خلال مشاركتهم في دورات ثقافية ومهارية وعلمية، ولكن المواطنين العاديين من ذوي الدخل المحدود وما تحتها، هل نهمل حق أبنائهم في التحصل على أفضل ما يوجد على الساحة التربوية والعلمية، لمجرد أنهم لا يضعون كل ذلك ضمن أولويات أهدافهم من التعليم؟!

من لا صوت له يجب أن يكون له ممثل يتحدث عنه، ليس باسمه، لأن هنالك فرقا، ولكن عنه وإليه ليعرفه بأهمية الفرص التربوية والتعليمية التي هي من حق أبنائه. ولا أعتقد أن من يدرك أهمية ما لا يقدم له وهو من حقه سوف يصمت أو يرضى بما يقدم. فرص ونوعية التعليم يجب أن تكون على مستوى واحد بالنسبة للجميع، وحسبما ما جاء في أعمدة اليونيسكو للتعليم في القرن الحادي والعشرين: أتعلم لأعمل، أتعلم لأكون، أتعلم لأتعايش مع أقراني، أتعلم لأثري معرفتي.

أتعلم لأعمل: هنا يجب أن نسأل أنفسنا كمعدي مناهج ومقدمي برامج تعليمية وتربوية: هل ما يقدم يؤسس لنا بناء شباب قادر على دخول سوق العمل بمجرد التخرج من التعليم العام؟ ما هي المهارات والقدرات التي عن طريقها يستطيع الطالب ـ أو الطالبة ـ أن يستخدمها ليس فقط في التقدم للعمل بل أيضا للحفاظ عليها وبنفس الوقت العمل على مواصلة التعلم والتدريب والمستمر؟

أتعلم لأكون: ماذا؟ رقم في إحصائية ما؟! بالطبع لا! هنا نتحدث عن بناء الشخصية ذات مستوى عال من الثقة في القدرات الذاتية، قادرة على الحوار والتقييم والتقويم وإعادة بناء أو توسعة كل ما خزن من مفاهيم أو ما يستجد منها مما يعترض الحياة اليومية.. شخصية تعرف ماذا تريد ومن أين وكيفية التحصل عليه، والأهم من ذلك كله شخصية برأي حر محمي من الانقياد أو التقليد الأعمى، شخصية بأهداف واضحة تسعى لتحقيقها في محيطها وفي مجتمعها وفي أمتها.

أتعلم لأتعايش مع أقراني: وبجملة واحدة "القضاء على التعصب بجميع أشكاله"، نعمل على بناء المواطنة الصحيحة من خلال صقل مهارات الحوار الصحي الخالي من الانتقاد الهادم، والعمل على إعادة بناء مفاهيم خاطئة وتعزيز المفاهيم الصحيحة باستخدام استراتيجيات تعليم جديدة كالتي ظهرت مؤخرا على الساحة مثل "التعلم التوليدي في التدريس"، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، فالمجال التربوي يخرج إلينا باستراتيجيات حديثة كل فترة، ولكننا للأسف ما زلنا نركز على التلقين والتحفيظ من قبل الكثير في الهيئة التعليمية.. يحرم الكثير من طلابنا وطالبتنا من كل ما هو حديث لمجرد أن من يقوم على تعليمهم لا يرغب في استخدام طرق جديدة، لأن ذلك يتطلب مجهودا إضافيا في التدريب والبحث المعرفي! إن أبناءنا يحرمون من حقهم حتى في فرص الالتقاء مع أقرانهم في الحوار ضمن فرق للتعبير عن آرائهم ومخاوفهم ومطالبهم، ولو في حدود البيئة المدرسية من خلال برلمان مدرسي ينتخب بسبل ديموقراطية حرة ومباشرة من قبل الطلبة والطالبات أنفسهم! حتى سبل المناظرة لا يعرفون عنها شيئا! نريد التعايش ولا نعمل على تأسيسه!

أتعلم لأثري معرفتي: كل ما نجده أن الشعار هو أتعلم من أجل الاختبار والدرجة النهائية. القراءة في آخر جدول الأوليات إن لم تكن سقطت منها أصلا! المكتبات المدرسية على مستوى أقل مدرسة في دول مجاورة وتكاد تكون معدومة! الإنترنت داخل الفصل التعليمي من أجل إتاحة الفرصة للطالب والطالبة للبحث عن المعلومة بأنفسهم، ما زالت حلما! كيف نتوقع منهم الاستمرار في بناء الذات من قدرات ومهارات ومعلومات إن كان هنالك رفض وتذمر لعدم معرفتهم بقيمة وأهمية كل ذلك بالنسبة للحياة العملية فيما بعد. كيف لهم أن يعلموا وهم لم يجربوا قط الحياة العملية لا من خلال تجارب شخصية أو من خلال الأنشطة اللامنهجية التي تعمل على زجهم في معترك الحياة وتجربة، ولو على نطاق ضيق، ما ينتظرهم خارج أسوار المدرسة!

هنا يجب أن تتخذ قرارات جريئة من قبل المسؤولين من أول السلم في مجال العملية التعليمية إلى أعلاها. قلتها من قبل وسأعيدها اليوم: التعليم بحاجة إلى ثورة تنفض عنه غبار التجمد لكي يستطيع أن يواكب مسيرات التعليم في بقية أنحاء العالم المتحضر، فمسيرة التعليم لم تسقط.. ما زال هنالك أمل! فأولا وأخيرا لا نريد تعليما ينتج لنا مساطر من نوع واحد... نريد "موزايك" يثري ويبني!