خلاف العلاوات المالية والبدلات السنوية وغيرها من الامتيازات المالية التي تمثل الآن ملفات حاضرة بقوة في أروقة المجلس الأعلى للقضاء، يبدو أن هناك ملفا أكثر سخونة، سوف يحتل المكان الأبرز في ملف المعاملات على مكتب معالي رئيس المجلس، وهو ما يمكن وصفه ب ملف (القضاة الحركيون)، والذين يظهرون من خلال مواقفهم الحركية أنهم يمثلون شخصيات حزبية أكثر من كونهم شخصيات عدلية.
تخيل أن قاضيا يؤمن بإطلاق وصف جنود الشيطان على أحد مواطنيه، ويدافع عن ذلك الوصف، وفي بيان آخر يؤيد فتوى تكفير مستحل الاختلاط ، ويزرع نفسه عنصرا حركيا حزبيا، فما الذي يتبقى هنا للحياد وقيم العدل؟
البيانات التي يصدرها بين الفترة والأخرى ثلة من الموقعين - وهي أسماء تتكرر غالبا -، يذيلون توقيعاتهم بتعريفات توضح مواقعهم ومناصبهم الوظيفية، هي في الواقع شكل من أشكال التعبير وإبداء الرأي، مما يحتم عليهم أيضا أن يقبلوا كل تفاعل يحدث مع بياناتهم، سلبيا كان أو إيجابيا، مع أن في البيانات شكلا من أشكال المظاهرة، فهي أشبه بتجمع يرفع لافتات وشعارات إنما على الورق، ولا يمكن لأحد أن يلاحظ أن تلك البيانات جاءت في يوم من الأيام بموضوع أو بموقف يلائم أهداف المجتمع أو الدولة أو التنمية، إنما، جل ما تحمله البيانات لا يعدو كونه اعتراضات مبالغ فيها للغاية، على خطوات تقوم بها جهات ومؤسسات حكومية، أو على من يحملون أفكار الدولة في التنمية التي تقدم ما يلبي تطلعات الناس، وما يمثل توجها واعيا للدولة المدنية الحديثة، تلك الدولة، التي لا يمكن أن يسهم في تشكيلها من لا يستوعبها ولا من يحملون أفكارا ما قبل الدولة، ما يوقعهم في حالة من الخلط والاضطراب الواضح بين قيمهم وأفكارهم ومعارفهم والمتون التي يحتكمون إليها، وبين واقع الدولة الحديثة ومتطلباته واحتياجاته.
السؤال هنا: ماذا حين يكون المعنيون بتنفيذ سلطة من سلطات الدولة جزءا من ذلك الصراع؟ يحدث هذا حين تلاحظ ضمن الأسماء المنشغلة بالتوقيع على البيانات الحركية أسماء من القضاة، يستغلون سلطتهم وموقعهم القضائي الذي هم فيه بقرار ملكي أحسن الظن بهم وبحيادهم ليتحولوا إلى صناعة التفرقة والتناحر بعيدا جدا عما يليق بمكانتهم الفعلية ودورهم الوطني.
لم يعد سرا، ولا مفاجأة القول إن واحدا من أبرز أشكال الحركة الفعلية في الحياة السعودية، هو الصراع بين المحافظين والمدنيين – إن صح التعبير - وهو صراع على شكل الحياة المستقبلية في هذه الدولة الحديثة، بين من يرون في مختلف فعاليات الدولة الحديثة صدمة لثوابتهم، وبين من يساندون توجهها التنموي والمستقبلي التحديثي، ومن الإيجابي القول إن الدولة تستوعب هذا التجاذب بين النخب الفكرية والثقافية في مختلف المراحل وتقف منه موقف المحايد، بل وتتعامل بذكاء ووعي واضح جدا مع هذا التنوع، وتؤمن أنه شكل من أشكال الدولة الحديثة، وتدير هذا الواقع من خلال إيمانها بدورها الفعلي ومن خلال سلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
إنما، ما هو الأنسب اتخاذه عن أن يخرج أفراد من إحدى تلك السلطات، ليصبحوا طرفا في ذلك الصراع؟ بكل حياد يمكن القول إنهم خدشوا مكانتهم كجزء في السلطات السابقة، وأصبحوا جزءا من الصراع الذي يفترض وإن اشترك فيه الجميع إلا أن السلطات الفعلية التي تمثل أركان الدولة في كل مكان في العالم تظل بمنأى عن هذا الصراع؟
الذين يفرحون بحضور القضاة في هذه البيانات ويحاجون بأن للقاضي دورا علميا فقهيا وعمليا هم ينطلقون من صورة قديمة للقاضي تتمثل في القاضي الفقيه، وهو نموذج لا تحتاج إليه الدولة الحديثة التي يمثلها الآن القاضي القانوني الملتزم بشرط وقيمة العدالة والحياد، وما الفقه بالنسبة له إلا جزء من معارف عدة تمثل تكوينه وشخصيته.
ما معنى أن يخرج قاض يفترض أن المساواة من بدهيات أدواته ويتحول إلى اسم في بيان، وطرف في معادلة صحوية حركية؟ أول المعاني هو أن هذا القاضي يذعن انتماء وولاء لتيار ما أكثر مما يذعن للدولة؟ والثاني أنه يفتقد – بكل بساطة – لأبرز اشتراطات العدل الفعلي، التي تضع نفسها فوق الخصومات.
بعض هؤلاء القضاة باتوا أشبه ما يكونوت بالشرطيين الذين يعدون أقاربهم ومعارفهم لأن يبالغوا في الإيذاء لخصومهم إذا ما استطاعوا إحضارهم لهم. وهم في ذلك يعلنون أن وفاءهم لتيارهم أكثر حظوة من ولائهم لدورهم، مما يجعل مرجعهم المتمثل في المجلس الأعلى للقضاء في حالة حرج تستلزم منه موقفا واضحا ومؤثرا ينتصر فيه للعدل وقيمه وللدور الوطني للقضاء على حساب من يبحثون له عن أدوار أخرى.
إن التطوير القادم للقضاء عليه أن يضع في سياسته أن المشكلة ليست في مبنى متهالك لمحكمة ما أ و مكتب غير أنيق للقاضي، ولا في إعطاء القضاة دورات في اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي، بقدر ما هي في إعادة تعريف القضاء وتقديمه كقضاء لدولة مدنية حديثة.