تمنحنا الحياة أقدارا جديدة مع بداية كل يوم.. قد لا نشعر بها أو نتنبه لها رغم أنها موجودة بشكل ظاهر. والمسألة هنا تكمن كلها في بصيرتنا التي لو أننا وظفناها بشكلها الصحيح، لتمكنا من أن نتعامل مع ما يلقيه علينا القدر بحكمة بالغة.

حين كنت طفلة كنت أسمع والدي يردد علي دعاء: "الله ينور بصيرتك"، لم أكن أدرك حينها ماذا تعني البصيرة وما سر تلك الكلمة العظيمة.. إلا أنني كنت دائما أبحث في داخلي عن معناها.. عاما بعد عام والحياة تلقي أمامي كل صعوباتها.. كل مشاقها.. كل كبدها.. وأنا وسط أمواجها المتلاطمة أتخبط.. وعند نهاية كل عثرة تطرأ على ذهني كلمة "البصيرة ". ورغم أنها كلمة ترددت كثيرا في آيات قرآنية كريمة، إلا أنني لم أدرك معناها إلا بعد أن خضت كل امتحان ألقاه علي القدر.. فشلت كثيرا ونجحت قليلا، إلا أن ما كسبته رغم جولات الفشل المتكررة كان أكبر مما كنت أتوقع.. لأن الحسابات هنا تختلف عن حسابات الربح والخسارة المادية المتعارف عليها.. إنها نوع من الحساب الذي يتم إحصاؤه مع النفس.. والنفس وحدها..

يقول الله تعالى: "وفي أنفُسكُم أفلا تُبصرُون، وفي ?لسّمآء رزقُكُم وما تُوعدُون" الذاريات: 20-21

وكلمة "يبصرون" في آيات القرآن الكريم حسب التفاسير معناها: الرؤية الصحيحة الدقيقة بنور البصيرة التي يرى بها أهلها حقائق الأشياء وأسرارها ودقائقها التي تشتمل عليها وتنطق بها بتوفيق وهداية من الله تعالى.

إنها الأنفس التي تحتاج إلى إعمال البصيرة والبحث والاستقراء.. إنها عملية البحث فيما هو وراء ما هو واضح للجميع والتجاوز إلى رؤية الحقيقة... إنها الرؤية التي يدعمها الإيمان الخالص بالله والتسليم بمعجزاته وقدراته بحيث ترى بنور الله وتهتدي بما يهديك إليه.

يقول الله تعالى: "بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره".

ففي الحياة الدنيا قد نبرر أخطاءنا أو نلقيها على غيرنا إلا أن الإنسان في الآخرة يقول: من يشهد على هذا الكلام "أي أعماله التي عملها في الدنيا"؟ فيأتيه الجواب: أنت الشاهد والمشهود عليه.

والبصيرة نور يؤدي إلى الحكمة.. والحكمة فعل من هو قادر على أن يتجرد من أهواء نفسه وميولها ليمنح الآخرين قولا محكما وعادلا في آن معا، وبالتالي يصنع توازنا منطقيا لكل شؤون العقل والتدبير.. يقول الله تعالى: "وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب"، فالحكمة بمعناها هنا هي "البصيرة" التي تضيء العقل والروح.

وفي مثل صيني قديم قيل إن للذهب ثمنا.. لكن الحكمة ليس لها ثمن، لأن قيمة الحكمة تسمو عن التقييم المادي المتعارف عليه في الحياة، ولأنها تكتسب من التجارب والمعرفة ولا تشترى بالمال.. وهنا يحضرني مسرحية الكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو "الدكتور فاوستوس" الذي باع روحه للشيطان كي يكتسب المعرفة والحكمة إلا أنه وجد الحكمة والمعرفة كلها كانت تكمن في الروح، وبهذا خسر ما كان يبحث عنه، لأن الروح هي الحقيقة الخالدة التي منحنا إياها رب العالمين لنستبصر بها ولترشدنا إلى الحكمة.. إنها كما قال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون".

قد يكون ما نحتاجه كثيرا، هو الابتعاد قليلا عن ضجيج حياتنا لنختلي بأنفسنا قليلا ولنتأمل سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام حين كان يختلي بنفسه في غار حراء ويفكر ويتأمل، لأن نفسه كانت تبحث عن الحقيقة ليجدها بعد ذلك بعد أن نزل عليه الوحي بكلمات الله التامات. وكانت تلك بداية رسالة عظيمة حملها عليه الصلاة والسلام بالمعرفة والحكمة والمنطق إلى البشرية جمعاء.

لقد تخبط العالم كثيرا في مشواره في البحث عن الحقيقة، ففي الشرق كما في الغرب كانت هناك مسيرة طويلة للتقرب من الحقيقة ومعرفة الذات والكون.. وبنظرة سريعة إلى التاريخ القديم تُظهر بوضوح تلك الأسئلة التي كان يطرحها فلاسفة عظام مثل كونفوشيوس وإفلاطون وأرسطو وغيرهم، كما نجدها في شعر هوميروس وكلها كانت أسئلة تعود لتتوقف عند نفس النتيجة، وهي البحث في القلب والروح.. فهناك تكمن البصيرة التي ستتوجه للحياة لتبحث فيها ولتضيء لنا الإجابة عن كل الأسئلة.

إن معنى الحياة كلها يقف عند كلمة البصيرة، فهي كالنور الساطع.. تبدو لنا من بعيد.. حقيقة مجردة نراها ونسعى إليها، وكل ما نحتاجه هو البحث عن الدرب الذي يصل إليها.. هذا إن كانت لدينا بالفعل تلك الرغبة القوية لتفسير الأمور بمنطق لا يخضع لهوى النفس والتي وردت في القرآن الكريم.. في قوله تعالى: "وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى، فإنّ الجنّة هي المأوى".

وهي عودة إلى النفس التي تميل إلى ما تحب وتهوى، وهي النفس التي تحتاج إلى إعمال البصيرة كي لا تجنح.. وبالتالي فإن البحث عن الحقيقة هو بحث يقود إلى ذاك الضوء الذي يمنحنا رؤية أوضح وإجابة حاسمة لكل سؤال.. إنها البصيرة النافذة والتي لا تأتي إلا لمن عالج نفسه واهتدى إلى الله - نور السماوات والأرض.

والنفس أمّارة بالسوء، ولكن هناك نفسا أخرى تقابلها، وهي النفس المطمئنة، ويقيني أنها النفس التي اهتدت للحقيقة بنور البصيرة فاطمأنت واهتدت، كما أن هناك النفس اللوامة، وقد تكون هي النفس التي عرفت ما أخطأت به ونظرت إلى الحقيقة فندمت على ما فعلته، فهي نفس تملك البصيرة التي دفعتها لترى الحقيقة.. وعظمة النفس تتجلى هنا في مراجعتها والبحث فيها للكشف عن البصيرة.

كم نحتاج لهذه البصيرة في أوقاتنا هذه.. حيث كثر المنافقون والطامعون والمتسلقون واختلطت الأمور وغابت أوجه الحقيقة.. وحيث أصبحت زينة الحياة الدنيا هي الهدف الأوحد في الحياة بالنسبة لكثيرين يغفلون عن البحث في دواخلهم عنها - البصيرة - .. يغفلون عن وجه الحقيقة الأوحد.. الحقيقة التي لا ترتدي أقنعة ولا تداهن ولا تتوارى..