فقه الأولويات مما ينبغي أن يبرز، ويأخذ حقه من الدراسة والتطبيق، خاصة في هذا العصر، وقد رأيت كما رأى غيري خللا كبيرا في الاهتمام بالمسائل الشرعية، من حيث الحجم المعطى لها، وتقديمها أو تأخيرها على غيرها.
ومن المعلوم أن الشيء إذا أولي اهتماما أكبر مما يستحق كان ذلك على حساب غيره من المسائل المهمة، وهذا يوقع الخلل والارتباك في منظومة الأحكام الشرعية لدى المسلم، فيقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم، ويكبّر الصغير، ويصغّر الكبير، وربما ضاع بسبب ذلك الكثير من الحقوق والواجبات. ومما يوقع في هذا الخلل أن البعض يقدم من الأعمال والقربات ما تشتهيه نفسه فقط، أو ما جرت به العادة، بغض النظر عن وزنه أو مساحة الاهتمام به شرعا، فليس كل ما أمر به الشارع على درجة واحدة، فهناك واجبات وهناك سنن. وللأسف أن هذا اللون من التوجيه لمراعاة الأولويات يغيب عن خطابات الكثير من الموجهين وأصحاب المنابر. وبما أننا في شهر رمضان الكريم، فلننظر إلى بعض الممارسات المشاهدة، التي تضطرب فيها الأولويات عند عدد من الناس:
1- من المعلوم أن صلاة التراويح سنة مؤكدة، وأن أداءها في المسجد أمر مشروع، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يداوم عليها خشية أن تفرض على أمته، وصلاها الخلفاء والأئمة من بعده، وحضور الناس لها في رمضان أمر يبهج النفس، ويسر قلب كل مؤمن، ولكننا مع ذلك نجد أن هذه السنة تتقدم على الفرائض عند بعض الناس، فيحرصون على أدائها أكثر من حرصهم على صلاة الفجر وبقية الفرائض، ولك أن تقارن عدد المصلين في صلاة الفجر في غير رمضان بعدد المصلين لصلاة التراويح هذه الأيام، ولو تأملنا الحديث القدسي الصحيح "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه" لتعلمنا فقه الأولويات في رمضان وغيره.
2- يحرص البعض على أداء سنة الاعتكاف في الحرمين أو غيرهما من المساجد، وهذه عبادة عظيمة، وأجرها- خاصة في رمضان- أجر عظيم، ولكن بعض المعتكفين يترك إمامة المسجد الذي كلف به من قبل وزارة الأوقاف، وهو يأخذ الأجر على ذلك، أو يترك ذريته الذين يعولهم ويقيم شأنهم وهم بحاجة لرعايته، أو يترك أبويه وهما بحاجة لرعايته، ويذهب مع أصحابه لأداء سنة الاعتكاف.. فكل هذه الواجبات المتروكة، أهم وأولى من الاعتكاف المسنون. ولعل من تلبيس إبليس على بعض الصالحين أنه يفتح لبعضهم بابا من الخير في سبيل أن يصرفه عن سبعين بابا. فقهنا الله وإياكم في الدين.