حين دهمتني فكرة المقال، دهمني معها عنوانه الذي كان في الأصل: "لماذا لا نتابع الإعلام الإسرائيليّ!". ثم عدلتُ عن شكل العنوان وصيّرتُه على النحو الذي عليه الآن من باب منع النفس عن الانزلاق في الدعوات الخجولة، وبالتالي الولوج في الدعوة الصريحة لفعل أمر ما. لذلك يحمل مقالي حثّا للعرب على متابعة إعلام "إسرائيل" دون خجل أو وجل.
ما انفك مصطلح التطبيع ينوء بغالبية العرب وإنْ كانوا عصبة أولي قوة، والسبب أنهم على غير تفسير واحد لمعنى التطبيع، فراحت الهواجس تضربهم خبط عشواء من تصب، لدرجة أن البعض ظن متابعة صحيفة "هآرتس"، مثالاً لا حصراً، ضرباً من ضروب التطبيع. والسبب، إذن، انعدام التفسير القويم لهذه المفردة التي جعل البعض منها سلاحاً يشهره في وجه الآخر من باب ادعاء الوطنية والمزايدات على الغير.
إن محاولة فهم الطرف الآخر، خصوصاً في حالة العداء والصراع، هي واجب وطني لا خيانة وطنية، وليست تطبيعاً بأي معنى من معانيه، وهذا الفهم لا يمكن أن يتم إلا من منفذ الإعلام أولاً، ثم من منافذ رصد أدب الآخر وحراكه الفكري والفني، لأن هذه المنافذ مجتمعة تلخص بشكل دقيق ما يدور في ذهن الآخر وكيف يفكر، ولم تكن هناك مبالغة في القول: "من تعلم لغة قوم أمِن شرهم".
لقد تفوقت إسرائيل علينا في هذا الصدد، وهو تفوق يضاف إلى تفوقها العسكري الذي يقتضيه وجودها وسط ملايين العرب والمسلمين، فلا تكاد تنجو وسيلة إعلامية عربية، وأقصد الإعلام الناضج والمؤثر، من رصد إسرائيل لها، وحتى تحليل المصطلحات المستخدمة، وتحليل البرامج الحوارية. كما أنها ترصد افتتاحيات الصحف ومقالات الرأي، وحتى الصيغ التحريرية للمادة الإخبارية المقدمة للقارىء العربي، ولهذه الغاية ازداد عدد الإعلاميين الإسرائيليين الذين يجيدون اللغة العربية أكثر من ثلث الإعلاميين العرب، وثمة من تخصص لمخاطبة الإعلام العربي، وما كل هذا إلا من أجل أن تظل تل أبيب على يقظة الفهم لما يفكر به العرب، وبالتالي تأخذ استعداداتها لمواجهة أي طارىء حتى لو كان طارئا فكرياً، أو فنياً، أو اقتصادياً. وأحسب أن هذا من قوانين صراع البقاء، وهو الصراع الذي يقض مضجعها كل حين.
إنهم، في إسرائيل، لم يحتسبوا ذلك تطبيعاً مع العرب، وإنْ كانوا يسعون في مناكبه حسب مقاساتهم، لكنهم رسخوه على أنه أداة من أدوات الصراع، وهكذا تفعل، مثلاً، واشنطن مع موسكو، والعكس صحيح، مثلما يحدث بين طرفيْ أي صراع، دون أن يوسوس شيطان التطبيع لأي منهما.
لا أنكر وجود إعلام عربي يقوم فعلاً بمتابعة الإعلام الإسرائيلي ونقل بعض مما جاء فيه للقارىء العربي، وهذه خطوة تُشكر عليها كل وسيلة إعلامية عربية، خصوصاً أن هناك تحليلات وتقييمات لمحللين إسرائيليين مبنية على معلومات استخبارية، لا تحليلات تخيلية أو "أمنياتية"، من الجدير أن يطلع عليها المهتم العربي. إلا أن حجم هذا الوجود في حاجة إلى توسع أكثر لا أن يقتصر الأمر على العدد القليل.
لقد كشفت مواقع التواصل الاجتماعي أن عددا لا يستهان به من المتسخدِمين العرب لا يعرفون، مثلاً، حقيقة الوضع الفلسطيني، ولا يفرقون بين فلسطينيي 1948، وفلسطينيي الضفة وغزة، وحتى لا يعرفون حقيقة وضع مدينة القدس، ولا يفرقون بين اليهودي والإسرائيلي، فكيف لهم أن يعرفوا عن إسرائيل إذا كانوا يجهلون تفاصيل القضية الفلسطينية. لذلك، وحتى تُشفى غالبية العرب من آفة الجهل بإسرائيل، من الحميد والمفيد الاطلاع على الإعلام الإسرائيلي وعدم اعتبار ذلك تطبيعاً ولا إعجاباً. فالناطق بلسان الجيش الإسرائيلي يتابع من خلال حسابه على تويتر عشرات الإعلاميين العرب من كل الجنسيات، وحتماً هو لا ينشد التطبيع معهم، ولا يعبر عن إعجابه بهم، لكنه يدرك أنه كأحد طرفيْ الصراع لا بد من "التجسس" علناً على عقول بعض العرب.
ثمة جامعات إسرائيلية تُدرّس قصائد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ولا ريب في أن هذه الخطوة الأكاديمية لا تعني البتة إعجاباً بشاعر الأرض والقضية والوجود. ثمة معنى واحد فقط في هذا المنحى، وهو محاولة فهم سر تمسك الفلسطيني بأرضه والتشبث بجذوره. لذلك، سيكون من الغباء تصور أن إسرائيل شارون هائم في حب درويش حين اعترف أنه يقرأ كل دواوين الشاعر الفلسطيني، لكنه قرأها كي يفهم "عدوَّه الفلسطينيّ".
فهِمتْنا إسرائيل، وفهمتْ إعلامنا، فتعاملت معنا وفقاً لفهمها. أما نحن فغالبيتنا لا تعرف عن إسرائيل سوى أنها دولة احتلال، وأن شجرة الغرقد سيختبئ اليهودي وراءها قبل قيام الساعة. ما يجب أن نعرفه يفوق ذلك بكثير.