في صغره كان الفتى القروي يصوم نصف نهار ويفطر في نصفه الآخر، وتلك كانت عادة الصغار الذين يكسرهم الجوع والعطش، وتسرق الأعمال الشاقة ـ التي يُكلّفون بها ـ ما لديهم من قدرة على الاحتمال.

كانت المدارس تغلق أبوابها في منتصف شعبان تقريباً، لذا يأتي رمضان وقد استثمروا خمسة عشر يوماً من شهر شعبان في اللعب، وتفريغ طاقاتهم في مطاردة كرة القدم في حدود القرية، فلم يكن الفتى القروي ورفاقه يجرؤون على مغادرة القرية وحدودها، خوفاً من آبائهم وأمهاتهم، وكذلك لحاجة الآباء إليهم في أي وقت يطرأ فيه طارئ أو يجدّ فيه جديد.

كانت وسيلة الاتصال الأشهر في عالم القرية إذا أراد أحدٌ أبناءه في عمل صدح بصوته العالي من فوق سطح المنزل ليصل نداؤه سريعاً ومعه استجابة الأبناء الذين عادة ما تشغلهم كرة القدم في أوقات العصر، ما زلت وأنا أستحلب هذه الذكريات من مستودع الذاكرة أتعجب لحالنا ونحن نستجيب لتلك النداءات دون سؤال عن المهمة التي من أجلها نودي بنا، فلا اعتراض لدينا يسبق المعرفة، ولا تململ أو ادعاء عدم القدرة يلحق بها، لقناعتنا بأن الصوت لم يأت إلا لحاجة طارئة لا مكان للاعتراض فيها أو عليها.

لم يكـن رمضان بالنسـبة لنا صوما وعـبادة فقـط، بل كان فرصة سانحة لنختلط بأهل القرى الذين يتقـاطرون إلى البيـوت بعد صـلاة التراويح، مباركين، ومتبادلين لأحاديث المساء.

أشهد أن لذة تلك الليالي تسيل على ذاكرتي اليوم، وكأنها مشاهد حية بُعِثت، ليسر بعثها نفوساً تعشقها، بل أكاد أجزم أن ما كان يدور من أحاديث في ليلة واحدة من تلك الليالي كان يفوق لقاءات كثيرة مثلها في هذا الزمن.

كان الطابع العام لتلك الليالي الرمضانية لا يتجاوز أحاديث النكات والطرافة، ومزحات لا يدخلها دخن، ولا تنهيها صرخة احتجاج أو عتب على أحد.

كانت الزيارات تبدأ من أحاديث ما بعد صلاة التراويح في المسجد، والتي لا تلبث أن تنتقل بدعوة أحدهم الباقين إلى بيته، لإكمال الحديث دون تخطيط مسبق في بيت من بيوتات القرية، فلم تكن تلك الزيارات تستوجب كلفة المستضيف، ولا تأنق الضيف.