حققت فلسطين انتصارا سياسيا كبيرا يوم 29 نوفمبر الماضي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعدما قامت الجمعية بترقية وضع فلسطين كمراقب في الجمعية من منظمة إلى دولة وهو ما يعني الاعتراف بها ضمنا كدولة، وإن كانت لا تزال لم تحصل على العضوية الكاملة. وقد شاء القدر أن يتم هذا الأمر بعد 65 عاما بالتمام والكمال من قرار نفس الجمعية العامة الشهير رقم 181 الذي بموجبه تم تقسيم فلسطين المنتدبة تحت الحكم البريطاني إلى دولتين الذي كان في نفس اليوم 29 نوفمبر 1947. ورغم أن العضوية الكاملة في الأمم المتحدة تتطلب موافقة مجلس الأمن بدون أي فيتو وهو الأمر الذي لم يتسن نظرا لمعارضة الولايات المتحدة، إلا أن الخطوة التي قام بها الفلسطينيون لا يجب التقليل منها بأي حال من الأحوال. سويسرا لم تتقدم للعضوية الكاملة في الأمم المتحدة إلا عام 2002 وظلت منذ عام 1946 وحتى ذلك التاريخ تتمتع بصفة "دولة مراقب" في الجمعية العامة تماما كوضع فلسطين اليوم.
المعركة القانونية والدبلوماسية لقضية فلسطين ليست بأقل أهمية من المعارك على الأرض، بعد نكسة عام 1967 صدر قرار مجلس الأمن الشهير 242 الذي يمثل اليوم أساس عملية السلام وحل الدولتين بكونه يطالب إسرائيل بالعودة لحدود 4 يونيو 1967 وجعل ذلك حدود دولة فلسطين المزمعة. لكن في ذلك الوقت وعند صياغة مشروع القرار قام الوفد الأميركي بالضغط لأجل إصدار صيغة مبهمة لنص القرار، حيث نصت الفقرة الأولى من المادة الأولى على "انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتلتها في النزاع الأخير" هكذا من غير "أل" التعريف قبل كلمة "أراضي"، ومن ثم كان من شأن نزع كلمة واحدة (the) قبل كلمة (Territories) أن تفتح الباب لحالة صراع سياسي ودبلوماسي جديد نافحت فيه إسرائيل بأن نص القرار لم يطالب بالانسحاب من "كافة الأراضي" وإنما من "أراضي" احتلتها في تلك الحرب، خاصة وأن الفقرة الثانية من نفس المادة نصت على حق دول المنطقة في حدود "آمنة" وهو المدخل القانوني الذي أدخلنا في دوامة المفاوضات بخصوص التنازل عن بعض الأراضي وترسيم الحدود في عملية السلام اليوم. ورغم أن النص الفرنسي للقرار – الذي له نفس الحجية القانونية - تضمن أداة التعريف (des) قبل كلمة الأراضي وهو الأمر الذي فتح الباب لأن يكون قرار 242 أكثر القرارات جدلية بالنسبة لدارسي العلوم السياسية والقانون الدولي إلا أن كل هذا بات في عداد الماضي بعد تجاوز عملية السلام لهذه المرحلة، ولكنه من باب آخر يكشف حجم وأهمية المعركة القانونية الدولية فيما يخص قضية فلسطين.
لهذه المعركة عدة أوجه ولعل أكثر ما أثير إعلاميا هو أن قرار الجمعية العامة بترقية وضع فلسطين إلى دولة هو أن ذلك يتيح لها الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية بصفتها دولة كما ينص قانون روما المنشئ للمحكمة، وقد سبق للسلطة الوطنية الفلسطينية أن تقدمت في عام 2009 بخطاب للمحكمة الجنائية تعترف فيه بولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية ومن ثم طلب التحقيق في ادعاءات جرائم حرب ضد الإسرائيليين بعد العدوان على غزة عام 2008، وفي أبريل 2012 جاء رد مكتب المدعي العام لويس مورينو أوكامبو بأن المحكمة لا يمكنها ذلك دون تحديد ما إذا كانت فلسطين دولة أم لا؛ حيث تنص المادة 12 من قانون روما على أن "الدول" فقط يحق لها أن تكون طرفا في المحكمة، وصرح أوكامبو حينها أنه لكي تمضي المحكمة في الأمر فإنه "على الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تقبل فلسطين كدولة بصيغة مراقب" وهو ما تم في 29 نوفمبر الماضي، مما يعطي الفلسطينيين اليوم القدرة على الانضمام للمحكمة ومقاضاة الإسرائيليين على جرائم الحرب المرتكبة، ولو على الأقل منحهم هذه الورقة القوية التي تعزز من موقفهم أمام إسرائيل.
الانتصار الفلسطيني في الجمعية العامة وإن كان رمزيا في غالبه يظل أمرا لا يجب التقليل منه لما له أيضا من انعكاسات قانونية، وأحد أهم تلك الانعكاسات هو المساهمة في إنهاء حالة التخبط القانوني الذي واجهته فلسطين. فعلى صعيد القانون الدولي العام (public international law) تعتبر فلسطين "أراضي محتلة" (occupied territories) وليست "دولة محتلة" وذلك رغما عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988 بإعلان استقلال فلسطين كدولة، وكذلك استيفاء فلسطين لمعايير "الدولة" بحسب "اتفاقية مونتيفيديو" لعام 1933.
اعتراف الأمم المتحدة اليوم يسهم في ترسيخ وضع فلسطين كدولة، والأهم نقلها من وضع "أراضي محتلة" إلى "دولة تحت الاحتلال" (طبقا لحدود عام 1976) من قبل دولة أخرى، بما يترتب على ذلك من تبعات قانونية بحسب اتفاقية جنيف الرابعة التي تنظم من خلال القانون الدولي مسؤوليات سلطة الاحتلال حال احتلال دولة لأخرى، حيث تنص الاتفاقية على المحافظة على الحالة القانونية القائمة في أي منطقة عند احتلالها، وحظر النقل القهري للسكان المحليين خارج منطقتهم وحظر إسكان مواطني الدولة المحتلة في مناطق الدولة الواقعة تحت الاحتلال، وهو ما ينطبق بشدة على الضفة الغربية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أعرب بحسب خبر لرويترز بتاريخ 20/9/2012 عن تخوفه من اتهام الفلسطينيين لإسرائيل بخرق اتفاقية جنيف حال ما تم ترقيتهم لوضع دولة غير مراقب بالأمم المتحدة. إسرائيل حاولت في الماضي التملص من مسؤولياتها تحت اتفاقية جنيف كسلطة احتلال من خلال تعريف "الأراضي المحتلة" الفلسطينية كـ"أراضي متنازع عليها" (disputed territories). قرار الجمعية العامة ضربة أخرى من خلال تثبيت الوضع القانوني لفلسطين كدولة لا كأراضٍ محتلة فقط.
القانون الدولي العام هو بالأساس تنظيم بين دول وبعضها البعض، ومن ثم فالاعتراف بفلسطين كدولة يجعل كل ما قامت به إسرائيل في مناطق الاحتلال لاغيا وباطلا قانونا، وهذا ينقل الثقل السياسي لمصلحة فلسطين، حيث يثبت الحق الفلسطيني أكثر – كدولة شرعية على حدود عام 1967 - طبقا للقانون الدولي ولا يربطه فقط بمسألة التفاوض وحق إسرائيل في الأمن كما اعتمدت هي خلال العقود الماضية. وهذا يفتح للفلسطينيين بابا آخر وورقة سياسية في غاية الأهمية أمام إسرائيل وهي مسألة حل السلطة الوطنية الفلسطينية (PNA). ففي حين تمثل منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) الجهة المعترف بها دوليا لتمثيل الفلسطينيين وصاحبة السيادة على الأراضي الفلسطينية تمثل السلطة الوطنية المنبثقة عن اتفاقية أوسلو عام 1993 منظومة الحكم الذاتي التي نقلت لها إسرائيل شؤون إدارة الاحتلال (الحكومة) في الأراضي المحتلة. حل السلطة الوطنية هنا يأتي كورقة ضغط قانونية في غاية الأهمية من حيث نقل عبء إدارة الاحتلال بحسب اتفاقية جنيف مرة أخرى للإسرائيليين، ولكن هذه المرة إدارة احتلال "دولة" لا مجرد "أراضٍ متنازع عليها" كما يدعي الإسرائيليون، وهو ثقل قانوني كبير بات الفلسطينيون يملكون ورقته في التفاوض. وقد يبدو من الجدير اليوم أن تعيد جامعة الدول العربية النظر في الملحق الخاص بفلسطين في ميثاقها؛ حيث لم يعد متناسقا أن يتضمن الميثاق ملحقا لا يثبت وضع فلسطين كدولة رغم أن الممارسة في الجامعة العربية عكس ذلك، ولكن يظل رغم كل شيء للورق وللوضع القانوني أهميته الكبيرة في المجتمع الدولي اليوم وهذا لب الانتصار الذي حققته فلسطين في الجمعية العامة، انتصار قانوني لا يقلل من شأن أي انتصار على الأرض، وكذلك لا يقلل الانتصار على الأرض من شأنه.