المشاهد كثيرة ولا يكاد يغيب منها شيء عن ذاكرة الفتى القروي، فكلّ أحداث رمضان قابلة للاختزال، ولعلّ أبرزها أنّ الغريب القادم إلى القرية لا يحمل همّ فطوره، سواء كان قدومه عارضاً نتيجة العبور السريع، أو كان قدومه من أجل مبيت يضطر معه إلى البقاء عدة أيام، فوجهته متفق عليها.

في المسجد يشارك القادم أهل القرية فطورهم الرمضاني، فيرتشف معهم القهوة المصنوعة من البن اليمني الخالص، ويزدرد عليها التمر، ويطفئ جوعه بكسرة خبز التنور الساخن، فلا يكاد الغريب العابر، ولا الفقير المعوز، ولا صاحب الحاجة يشعر بغربته أو عوزه أو حاجته وسط هذا التكافل والتآزر والفرح المرسوم على الشفاه والمعُبَّر عنه بهذا الجمع المعتاد في كلّ ليلة من ليالي رمضان، لا يتخلّف عنه كبير أو صغير من الرجال.

أما النساء فيبدأ نهارهن الأول في رمضان قبل شروق الشمس، فتؤدي المرأة دورها تجاه أطفالها وبيتها، راعيةً، وحاطبةً، ومربيةً للماشية، وجالبةً للماء إن لم يجد الرجال متسعاً من الوقت للإتيان به، فلا تظفر المرأة من نهارها الرمضاني إلاّ بسويعات ما بعد صلاة الفجر وما قبل شروق الشمس لكي تنام فيها، على أن تبدأ حركتها في دورة الحياة، من بعد شروق الشمس سعيدةً غير شاكية، ومنتجةً فاعلة، تقتسم مع ربّ أسرتها تعب الحياة، وما أمكن فيها من لذّة.

هكذا تبدو صورة القرية في رمضان، وهكذا يبدو النّاس فيها، فلا النوم بالنسبة للكبار سلطان النهار إلاّ ما يسبق صلاة العصر، وسويعات ما قبل شروق الشمس، ولا سهر الليل بالنسبة للكبار والصغار مجدياً أو وارداً فسباق أهل القرية إلى منافع الحياة ضرورة تقتضيها الحياة، فالمزارعون (وهم كثيرون) يذهبون إلى مزارعهم، والباحثون عن الرزق يسعون في رزقهم، مستعينين بالله في بكورهم ومعتمدين عليه في نشاطهم.

الشيء اللافت في حياة الناس أنّ الصلاة َجماعةً في المسجد تأتي دونما موعظة، أو حاجة إلى تذكير، إذ لم تكتشف القرية بعد مصطلح (داعية)، فالدّين بالفطرة يسكن النفوس المتعطّشة للمغفرة، بالصوم والعبادة والسعي في الأرض من أجل الرزق.

الشيء المتفق عليه في القرى أنّ موائدهم تكاد تكون واحدة.