أعود لمصر ـ أم الدنيا ـ وعاصمتها الفاتنة الساحرة القاهرة بعد عدة سنوات لأجدها تماماً كما عهدتها تضج بالسعادة والبهجة و"الفرفشة"، وتفوح منها رائحة المتعة والفرح، خاصة لياليها الرائعة بكل ما لذ وطاب من طعام وشراب.
لم أستغرب مطلقاً لتوقف عقارب الساعة بوجه هذه المدينة العتيقة التي كانت في يوم من الأيام الوجه المشرق للحضارة الإنسانية. حقيقة لم أستغرب ذلك، لأنني أتفهم كثيراً الأسباب الموضوعية التي أدت لذلك الجمود والتراجع أمام عجلات التقدم والتطور، والقاهرة ليست الاستثناء، فهناك العديد من المدن العربية والعالمية التي تعيش الحالة نفسها، ولكن الذي أدهشني ودفعني للكتابة هو ما يحدث من نسخ كربوني دقيق للتفاصيل الصغيرة والكبيرة التي يمارسها السائح الخليجي في هذه المدينة العربية التي تنتظر مثل هذه الأيام من كل عام بكل شوق ولهفة.
البرنامج اليومي لغالبية الأسر الخليجية يغلب عليه التكرار والتشابه والنمطية، ونسبة ضئيلة جداً من تلك الأسر تُدرك تماماً المعنى الحقيقي للسياحة الخارجية، لذا تعتبر وجود خطة متكاملة لرحلة السفر خارج أسوار الوطن من أهم الأولويات التي تقوم بها قبل السفر، ولكن للأسف الشديد ـ وكما شاهدت ـ تجد غالبية الأسر الخليجية تتجمع تقريباً في نفس الأماكن السياحية والترفيهية، وترتاد نفس المطاعم والمقاهي، حتى الفنادق تكاد تكون محددة وثابتة، تُشاهد كل ذلك الترابط والالتحام فتشعر بمدى تجذر الوحدة الخليجية المشتركة!
التفاصيل والأحداث كثيرة جداً، ولكنها في نفس الوقت مخجلة ومحزنة وتحتاج إلى دراسة وتتطلب وقفة جادة من كل الأطراف المعنية، لأن ما يحدث هنا من حوادث وانتهاكات وتناقضات وتداعيات غير مقبول بتاتاً.
المتاحف والقلاع والمكتبات والآثار والمعاهد والجامعات تنتشر في كل مكان هنا في القاهرة، ولكن لا أثر لكل تلك الآلاف من الأسر الخليجية التي تعتبر القاهرة بالنسبة لها الوجهة الأهم والأكثر. إذاً أين تذهب تلك الأسر؟ سؤال لا أجد له إجابة!
في أحد تلك الفنادق الفخمة المطلة على النيل، هذا النهر الخالد، جلست أرقب كعادتي المشاهد المضحكة والمؤلمة، حيث صارت ردهة ذلك الفندق المشهور أشبه بمنصة لعرض الأزياء الضيقة والقصيرة، وكذلك العدسات الملونة والتلفونات المحمولة والحقائب العالمية والأحذية الغريبة، وكل التفاصيل الأنثوية الصارخة والفاضحة الأخرى، والحال كذلك للشباب الخليجي، رغم أن الأمر في كثير من الأحيان يخرج عن السيطرة، فلا تكاد تميز بين الجنسين إلا بعد جهد كبير. المشهد الخليجي هنا يدعو للحزن والإحباط.
عن هذا الزحام والتجمع التي تشاهده كل مساء منذ أن وصلت للقاهرة قبل يومين تتساءل ساتني ماريانا (67عاماً) وهي من بلدة ريفية تبعد عن لندن أكثر من 480 كيلومتراً، حيث إنها هنا وزوجها كيث (68عاماً) الذي يعمل نجاراً، كما أخبرني بفخر دون أن يشعر بالخجل والعيب من تلك المهنة الرائعة، كما ترافقهما حفيدتهما لورا (17عاماً) والتي تدرس في سنتها الأولى متخصصة في الآثار في إحدى الجامعات الإنجليزية. تخبرني ماريانا التي تستعد للنوم، لأن أمامها غداً يوما طويلا جداً لزيارة الأهرامات وأبو الهول وخان الخليلي والأزهر والحسين، وتقول إنها لا تكاد تجد أحداً في الصباح الباكر من كل يوم، وتسألني أين يذهب هؤلاء؟ حقيقة لم أجد ما أقوله لهذه العجوز الإنجليزية التي كانت تخطط مع زوجها لأكثر من 4 سنوات لقضاء أسبوع في القاهرة، هذه المدينة العاصمة العريقة ـ كما تقول بحماس وصدق ـ التي كانت تحلم بزيارتها منذ صغرها لما تسمعه عنها من قصص وتاريخ وحضارة.
لقد أنقذتني لورا حينما تحدثت بلهجتها الإنجليزية الريفية الجميلة والأسى يسيطر على ملامحمها الوادعة بأنها في الأسبوع القادم ستعود للدراسة بعد قضاء 6 أسابيع، هي كل الإجازة الصيفية هناك في بريطانيا، وكم دُهشت المسكينة، بل صُعقت حينما أخبرتها أن زميلاتها السعوديات، والخليجيات على وجه العموم يتمتعن بأكثر من ثلاثة أشهر كإجازة صيفية في كل عام، يُضاف لها طبعاً العديد من الإجازات والعطلات الكثيرة التي تعج بها روزنامة التربية والتعليم في بلادنا.
يبدو أن كل ما نعرفه عن السفر لا يتعدى حجز تذاكر وفنادق وسهرا وتسوقا وحقائب كبيرة مثقلة بالفساتين والبدلات والأحذية والعطور والفيزا والبطاقات البنكية، وأشياء لا يمكن ذكرها في هذه الصحيفة المحترمة، أما بعض التخطيط والمعرفة والاكتشاف والتعلم، فتلك تفاصيل لا مكان لها في تلك الحقائب الكبيرة والكثيرة، ولا أظن أن لها مكانا أيضاً في ثقافتنا وتفكيرنا وسلوكنا.