في قراءة سابقة كان الحديث عن فلسفة المكان وحضوره الطاغي وإيحاءاته الذهنية ومفهوميته وبريقه الساكن في أعماق المبدع، ولكن التجربة المكانية وبلاغتها تحضر في النص من خلال ثنائية "الوطن والمنفى، الانقطاع والاتصال، الانفتاح والانغلاق، العربي والغربي، القرية والمدينة"، وتتجلى بوضوح علاقة اللغة بالمكان في الأعمال السردية كمقاربات للحياة المعاشة وشخوصها وتحليل حركتها الشكلية والوظائفية وأمكنة المحتوى الإنساني، ولكن الشعرية المعاصرة جعلت البلاغة المكانية حقلاً تتحرك في سياقاته بحس مدهش، ومخزون ابتكاري ونضارة حية وانفتاح على البنية الجمالية والانتقالات الرمزية المفاجئة ما بين التجريد والتجسيد، وبعث العناصر الحميمة في المكان بكل ظلاله وطاقته الجمالية، وشحناته الوجدانية عبر مثيرات لغوية وانسياب صوتي مبهر.
يقول الشاعر محمد عفيفي مطر: "رأيتني ملتحماً بالأرض في عراك. ملتحماً بالشمس في عراك. ملتحماً بالقمر الثلجي في عراك. فمن يخلص الأشياء من دمي المشاغب الذي تصعلكت خيوطه في طرق الهلاك، أو يقطع الحبل الذي تشده في عنقي أصابع الأشياء" ويقول عبدالله باهيثم: "تهجيت حدسك فارتاع قلبي. لكنني بين شعبين آنست ريعاً بمكة يفضي إليك. وأوشكت أن أتماثل ظلاً عليك، فأهويت فيما أقلب تحت السقوف الحطيمة. ثم تطاولت كيما أرى كيف عيناك لم تبصرا في وضوح الجريمة كيف خانتك هذي الأزقة والساحة البلدية ليل الأتاريك والكف والدان والعتبات القديمة".
وفي دراسة رائدة حول بلاغة المكان في النص الشعري قدمت فتحية كحلوش نموذجين لشاعرين تستجيب أعمالهما لهذا النوع من الدراسات التطبيقية، لكونهما كسرا الرتابة في العلاقات اللغوية ما بين المبدع والمكان، والحقائق الكامنة في النصوص الشعرية، سواء لسعدي يوسف من العراق أو عزالدين المناصرة من فلسطين، وقد حددت الناقدة أنواع المكان حيث يشمل ضمنياً "المكان الطباعي، المكان الجغرافي، فضاء الدلالة"، يقول سعدي: "تلك المدينة يا حبيبة والمنازل بانتظاري. تتوشح الياقوت ثوباً والزمرد والدراري. تلك النوافذ تستفيق مزركشات باخضرارِ. والورد يهمس فوقها والطيب يعمر كل دارِ". لقد أثقلته المدينة بموجوداتها وموحياتها حين أسفرت عن وجهها ووقع في أسرها، وأخلص لصورتها الحسية والبصرية ضمن القوانين البلاغية التي ينضح بها النص، فطغيان المكان ماثل في خبايا العقل والشعور الاستعاري كما نرى ذلك عند المناصرة حين يقول: "الليلة أذكر ما عز من الأشياء. الليلة يقتلني الشوق الأخضر للبحر والميناء. الليلة في هذي الساعة تصبح أشجار المنفى أكثر حزناً في روما. أو أن الطفل المختبئ بقلبي من زمن فات يصحو في آخر هذا الليل الموحش يأكلني التذكار".