في عالم الثقافة والفكر والمعرفة تتنوع القراءات تبعاً للمدرسة التي يعتنقها الإنسان، أو البيئة التي يعيش فيها المرء، ولذلك يكون من الصعوبة التامة التحرر من قيود التبعيات ليقرأ الإنسان بنور العلم والعقل، فالإنسان ابن لبيئته التي يعيش فيها، وتجاوز أطر البيئة التي ولد فيها فيه صعوبة للغاية، بل إن الذين عاندوا الرسل وقاتلوهم ومانعوهم إنما انطلقوا من رفض ترك ما عليه كان الآباء والأجداد: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، حتى لو كان الآباء والأجداد على ضلال يخالف العقل والحس، ولكن أولئك الذين آمنوا إنما كسروا أولاً حدة التبعية، وقبلوا الحق ورفضوا التقليد، وجعلوا المعرفة سبيلهم الأمثل والذي أوصلهم إلى الإيمان والعلم.

في التناول المعرفي في الساحة الثقافية لا تزال الأطر الفكرية والإيديولوجية التي تربى عليها الكثير تشكل رؤيته للكون والإنسان والحياة، وتتحكم بقراءته المعرفية، فيهجم على المسائل بناء على معتقدات ومعارف مسبقة تتحكم بنوع المعرفة التي يكتسبها والعقائد التي يعتنقها، والقيم التي يحملها، بينما القراءة المعرفة الواعية التي تأتي إلى المسائل بعقلية "الطالب للحق" الذي يخلي نفسه من معارفه السابقة في حالة البحث ليتوصل إلى الحق واليقين والصواب والأحكام على الأفكار والموضوعات هي التي توفق إلى الرؤية السديدة والرشيدة، ولذلك جاء في القرآن الصراع بين (الحق) و(الهوى)، كما قال الله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)، وكانت دعوة القرآن دائماً إلى إعمال العقل والنظر والتفكر وترك ما كان عليه الأسلاف، وأخذ الحق متى ما استبان للإنسان، وإحالته على معامل الفكر والنظر والتأمل والتدقيق حتى تكون معارف الإنسان محكمة، وأحكامه سليمة وعادلة ومنصفة، ومخرجاته ناضجة ونافعة لمجتمعه ولأمته.

لقد كان "ديكارت" نقطة مفصلية في البناء المعرفي والفلسفي للغرب، ذلك أنه أنتج مفهوم "الشك المنهجي"، وهو وإن كان أصله في كتابه "المقال" إلا أن المسلمين سبقوه بقرون كثيرة في تأصيل قضية "التجرد" في الوصول إلى الحق، وإعمال النظر في المسائل قبل اكتساب المعرفة، وقد بين بعض العلماء تأثر ديكارت بمناهج المسلمين في ذلك، وذكر السيد الطبطبائي في أثر علماء المسلمين على المفكرين الغربيين أثر ابن تيمية خاصة على منهجية ديكارت المعرفية، ذلك أن منهجه يقوم في دراسته العلمية والمعرفية على انتزاع النفس من المسبقات الفكرية، والتجرد التام للقراءة المعرفية وإحالتها إلى التأمل والنظر والمقارنة حتى يصل إلى الحق واليقين فيها، وصنيعه هذا يختلف عن منهج "الشك المطلق" الذي هو قلق معرفي لا يستطيع من خلاله الإنسان الوصول إلى المعرفة، بل والشك الذي لا يعقبه تسليم أو اطمئنان، وهو أقرب إلى الحالة السفسطائية في الفكر الفلسفي.

إن المشهد الثقافي عندنا يشهد نزوعاً إلى القراءة "المعيارية" و"المؤدلجة" للأفكار أكثر من القراءة "السننية" و"المعرفية" فيها، وهذا يجعل المخرجات محسومة، والأفكار ضعيفة، والقراءات ناقصة وهزيلة، لأن الرجل المعرفي هو الذي يحترم العلم ويقبل بنتائجه، بينما "المؤدلج" قد حزم أمره في كثير من المسائل وعطل دماغه عن العمل في فحص الأفكار والمسائل، فأحكامه قاطعة في كل قضية يحملها، ومواقفه محسومة من الأعيان والقضايا، ولذلك تجد الرجل الذي حصر نفسه في أطر من التفكير ضيقة جداً لا يحبذ الخوض في "تحرير المصطلحات"، لأنه معارفه هشة قد بنيت على الثقافة "الاستهلاكية" البسيطة التي يأخذها من مفكر يحبه، أو شيخ يتبعه، أو محيط تشكل فيه، وهذا يعفيه عن (الكد المعرفي) الذي من خلاله يبني شخصيته الاعتبارية والثقافية، وتكون معارفه قائمة على احترام العلم وأصول المعرفة.

وحين يجول الإنسان في كثير من الشخصيات العلمية التي أثرت تاريخياً يجد أن الجامع من خصائصها هو في الاستقلالية الفكرية التي تجعل العلم قائداً للفكر، ولذلك فهي تحرث في النتاج العالمي للأفكار لتكون قاعدتها: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)، وهي بهذا تحقق ذاتيتها وإنسانيتها المتفردة بعيداً عن التبعيات.

قال الإمام محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، إن أحسن من فسر هذه الآية هو أبو العالية، رحمه الله، حين قال: أما إنهم لم يحلوا لهم الحرام فيحلونه، ولم يحرموا عليهم الحلال فيحرمونه، ولكنهم قالوا: هؤلاء علماؤنا فما كانوا عليه كنا عليه.

إن أبرز معالم المنهج السلفي الذي أصله علماء المسلمين عبر التاريخ هو نبذ التقليد وجعله من باب الضرورات، والحث على "الاجتهاد" الذي هو العلم الموصل للرضوان، ذلك أن العلم القائم على اتباع "الحق" وترك "الخلق" هو الذي يعد من أعظم التعبدات لله تعالى، ولذلك تواطأ أئمة السلف على الدعوة لترك أقوالهم حين يجد الإنسان الحق عند غيره أو في الدليل، وعلى هذا ابن حنبل ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وأقوالهم في هذا مشهورة معلومة، ولذلك فإن البعث الحضاري والعلمي للأمة يأتي من خلال إعادة الاعتبار إلى العلم والمعرفة، وترك التقليد والجمود، وهو جزء من إحياء الدين وإقامته في الأرض: (إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذا الدين أمره).