ينشغل العرب بمصر، بينما تنشغل مصر بنفسها كالعادة. وفي المشهد الأخير لقاهرة المعز يحتدم النقاش، وتمتلئ ميادينها بالهتاف الغاضب واللافتات الحادة، ويغزو وجهها المتسامح سجالات الأحزاب وبرامج السياسيين وتربص الانتهازيين.. ينفجر عنف الأزمنة في المصري الذي طالما عرف بمسالمته وانشغاله بمهمتين أساسيتين عبر القرون، البناء والتعليم. تلك كانت مهمة المصري الجميل قبل أن تدخل الإيديولوجيا على خط التاريخ وتشحنه بعقدها وأمراضها وصراعاتها التي لا تنتهي.
يجري النيل يوميا بكلام كثير، تخلى النهر العظيم عن منح الحياة والنماء، تحول لجريدة من الحبر والتحليلات. يرقب أبو الهول ككهل حكيم وصامت، وهو الذي مر بسفحه مصلحون وغزاة، متسلطون وفقراء، لصوص وعلماء من ملل الأرض ونحلها.
مصر روح بلاد العرب وملهمة الأعراب اليوم تحت وطأة استقطاب هائل ومشاريع مفتوحة على المجهول. تصطدم مؤسستها الرئاسية الجديدة بالقضاء، فتصادر ما أنتجه العقل المصري الخلاق من أنظمة وقوانين، وقبل ذلك منجز الثورة الكبير، بينما تتابع الأغلبية الصامتة من "سطوح" الفضائيات بلادهم التي تغلي بالوعود والألم.
اختصرت الفضائيات مصر بميدان تحريرها. أصبحت الشوارع المؤدية له تحمل وسم الموت ودلالة الدم، وهي التي كانت قبلا هدى التائهين وسبيل العابرين الوديع. تحول البلد لخبر عاجل بالأحمر. اصطف محللوه بالدور على التلفزيونات لشرح المشروح وتفسير المفسر، مدججين بحججهم الدستورية وتفسيراتهم الدبلوماسية، بينما الحقيقة تتوارى وتبتعد مع كل تصعيد وإجراء، متحولة لأحجية فرعونية قديمة تمس بلعنتها كل من يحاول فك طلاسمها. "مصر التي في خاطري وفي دمي" تحاول اليوم مسح دمعها بمناديل شوكية، ترتق جراحها بالأمل والأمنيات، يصطرع ساستها بالمكائد والدعاية بحثا عن مناصب وتسويات، يشمت العدو ويحزن المحب. وحتى ينجلي ذلك كله نراقب بصمت ومحبة عسى أن يكون الخير نهاية هذا النفق الطويل، لكن الميادين ممتلئة بالغاضبين، تعلوهم الهتافات والمنشورات الحزبية، يطوقهم التصعيد، وتحيطهم الغازات والدماء والجنود بخوذاتهم، بينما أهلها يشاهدونها نشرات ومواجيز إخبارية.