في فترة تكاد تقترب من شهر كامل كانت قضية الطبقة الوسطى في السعودية مادة مهمة للنقاش والكتابة وتناولات الكتاب والبرامج الحوارية، يبدو أن ذلك العنوان قد تراجع نوعا ما، لكن مختلف القضايا المحلية التي تستأثر الآن بالساحة السعودية ترتبط بشكل أو بآخر بتك القضية. ترى هل من المبالغة أن نصفها بأنها قضية مصيرية؟ في الواقع المعاصر ومن خلال كثير من التجارب المحيطة بنا محليا وعربيا، لا مبالغة أبدا في القول بأنها قضية مصيرية، وبأنها هي المرجع الذي يمكن أن نعيد إليه كل نقاشاتنا الحالية المرتبطة بقضايا التنمية.
حافز الذي استأثر كثيرا بالنقاشات المحلية على كل المستويات، وقضايا البطالة والأمن والتربية والتعليم والقبول في الجامعات والمواصلات غلاء الأسعار وحماية المستهلك وإنشاء وزارة للإسكان واستراتيجية الدولة لحل أزمات الإسكان، وقرارات التوظيف الضخمة التي احتوت الآلاف من الخرجين والخريجات، والسفر والسياحة والاستثمار وسوق الأسهم وغيرها من القضايا، كلها تعود إلى مرجع واحد وإلى عنوان عريض جدا ومصيري جدا وهو: واقع ومستقبل الطبقة المتوسطة في السعودية.
لا يوجد مجتمع بلا تنمية ولا توجد تنمية بلا كوادر، ولا توجد كوادر في أي مجتمع ما لم تكن هناك طبقة وسطى طبيعية وحقيقية، هذه هي الطبقة التي تعمل والتي تبني، والتي يعد تأهيلها وتدريبها وطمأنتها بأن هذا المستوى من الأعمال ومن المهن هو مستوى يؤمن العيش الكريم والرفاه والاستقرار.
في تجربة أرامكو نلاحظ الخطوات المبكرة التي اتخذتها الشركة لا من أجل تخريج مجموعات من المديرين والرؤساء، بل مجموعة من الفنيين والعمال والتقنيين الذين استطاعوا بعد أن يديروا ذلك الصرح الضخم وأن يصل ليصبح واحدا من أبرز الصروح النفطية في العالم أجمع، تخيلوا لو أن التدريب والتأهيل اقتصر على الوظائف القيادية والإدارية، سنجد أننا بعد سنوات ما زلنا ندير ذلك الصرح العملاق من خلال كوادر أجنبية، ولبقيت أرامكو شركة سعودية بالاسم أجنبية على مستوى الطاقات والكوادر.
المشكلة الكبرى التي تواجهنا الآن أن السعوديين وبالنظر إلى الدرجات الثلاث للوظائف ما بين قيادية وفنية ومساعدة، يتركز وجودهم في الدرجة الأولى، وحين ظهرت أنياب البطالة في المجتمع، كانت الحلول تقع في الدرجة الثالثة، بينما أن العمل والنجاح الحقيقي والنوعي يكمن في الوظائف الفنية، التي تقوم على ممارسة مهنة يقوم أداؤها على تأهيل وتدريب نوعي. ولأننا في سنوات ليست بالقليلة توقفنا كثيرا عند الدرجة الأولى ولأن ثقافة العمل لدينا لا تزال تعيش تراجعا على مستوى الذهنية الاجتماعية لا يصبح قرار العمل فرديا لدى الشاب بل يرتبط بعائلته وبأسرته وبالمستوى المعيشي للأسرة.
لقد ارتبط العمل لدينا بالكسب سواء أكان المادي أم المعنوي، لكنه لم يرتبط بالقيم العليا للعمل المتمثلة في تحقيق الذات والمستقبل والنجاح، لذلك فالكثيرون من السعوديين الذين يعملون الآن في وظائف كانت حكرا على العمالة فيما مضى، إنما يدفعهم إلى ذلك الاحتياج المادي فقط، لكنهم لا يرون في أعمالهم التي يقومون بها مستقبلا ولا فرصة للتطور والارتقاء الوظيفي. أيضا فالعائلات الميسورة الحال لا يلتحق أبناؤها بتلك الوظائف بل يفضلون الانتظار في الغالب حتى تأتي الوظائف التي يبحثون عنها.
الحاجة مهمة لتأديب ذلك الخلل في الوعي الاجتماعي وتهذيبه، لكن هذا وإن كان جيدا على مستوى الأفراد إلا أنه ليس كذلك على مستوى المجتمع، إذ سيؤدي ذلك إلى خلق نوع من الطبقية خاصة وأن المهن الجديدة في سوق العمل لم تستطع إلى الآن أن تثبت أنها قادرة على بناء مستقبل. وهو ما يعني أننا كما نلوم الثقافة الاجتماعية التي لم تستوعب بالكامل واقع الوظائف الجديدة، نلوم القائمين على هذه الوظائف لأنها لا تزال عاجزة عن تلبية ما تقدمه الوظيفة لصاحبها من دخل وعيش كريم.
منذ فترة طويلة ربما تراجعت الحملات التوعوية التي كانت تقوم بها وزارة العمل في وسائل الإعلام لبث وزرع ثقافة العمل، والحاجة تتجاوز ما كان قائما في وسائل الإعلام، إلى ضرورة مخاطبة المجتمع في مدارسه وفي مساجده وفي كل منابره من أجل العمل على إشاعة ثقافة العمل التي لا تزال متراجعة، وبالمقابل العمل على أن تكون هذه الوظائف الجديدة قادرة على حماية الملتحقين بها، فالسبب الأبرز في تعامل كثير من الشباب مع هذه الوظائف تعاملا مؤقتا هو أنها بالفعل وظائف مؤقتة ولا يمكن أن تقيم حياة أو تؤمن مستقبلا.