مع اليوم السابع للعدوان على قطاع غزة تجاوز عدد الشهداء منذ بدأ العدوان المائة، وآلاف من الجرحى والمشردين، الذين فقدوا منازلهم بفعل القصف الهمجي الوحشي على القطاع. وكان العدو قد دشن التصعيد في حربه، باغتيال أحمد الجعبري المسؤول العسكري لحركة حماس.
التصعيد العسكري الصهيوني، قوبل بتصعيد فلسطيني مقاوم، جاء في شكله وروعة أدائه مفاجئا ومغايرا لتوقعات العدو. فقد أدار الفلسطينيون معركة المواجهة مع العدو بجدارة واقتدار. بلغت صواريخهم مدينة القدس، وعاصمة الكيان الغاصب، تل أبيب وما بعد تل أبيت، في مدى تجاوز الخمسة وثمانين كيلومترا إلى قريب من شمال الكيان المحتل. وتجاوزت الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، حتى هذا اليوم، الألف صاروخ. ولا شك أن إنجازات المقاومة، شكلت مفاجئة ومتغيرا كبيرا في معادلة الرعب، مع الصهاينة، سيكون لها أثر كبير في مجرى الصراع لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني.
لماذا قررت الحكومة الصهيونية الدخول في حرب إبادة ضد قطاع غزة في هذا الوقت بالذات؟ بمعنى آخر، ما الأهداف الحقيقية للعدوان على غزة؟ هذا الحديث سوف نكرسه لتقديم قراءة تحليلية تسعفنا في تقديم الجواب على هذا السؤال.
سيكون علينا قبل الاستغراق في مناقشة أهداف العدوان، التذكير، بأن استراتيجية التوسع الاستيطاني الصهيوني، وقضم الأراضي الفلسطينية المحتلة لم تركز، بشكل مكثف، على قطاع غزة. فالقادة الصهاينة، أعلنوا منذ احتلال القطاع، أن ليس في نيتهم ضم القطاع إلى الكيان الصهيوني. وأثناء مفاوضات السلام مع الرئيس الراحل أنور السادات، عمل مناحيم بيجن دون جدوى، على إقناع السادات بتسلم إدارة الضفة مجددا.
وخلال انتفاضة أطفال الحجارة، اعترف رئيس الحكومة الإسرائيلية، اسحق رابين بفشله في القضاء على النهوض الشعبي المقاوم في قطاع غزة. وفي لحظة بؤس ويأس، وشعور بالعجز تمنى ألا يستيقظ من نومه، إلا وقطاع غزة بأكمله غارق في البحر. وقبل مصرعه بعدة شهور، عمل رابين من خلال اتصالات سرية، مع الرئيس ياسر عرفات، عن طريق أعضاء فلسطينيين بالكنيست، وشخصيات قيادية في فتح على إقناعه بتسلم إدارة القطاع، لكن عرفات، رفض ذلك وأصر على أن يكون ذلك جزءا من تسوية شاملة مع منظمة التحرير الفلسطينية. وحين طرح موضوع تسلم قطاع غزة وحده في مفاوضات أوسلو رفض عرفات ذلك، وأصر على ربطه بأريحا، حيث حمل المشروع عنوان اتفاق غزة- أريحا أولا.
لم يكن الحال كذلك، بالنسبة للقدس والضفة الغربية. فقد أعلن الصهاينة، بعد أقل من أسبوع، على نكسة حزيران، عن نيتهم ضم الضفة والقدس إلى كيانهم، على اعتبار أنهما امتداد تاريخي ومثولوجي لإسرائيل. ومنذ ذلك التاريخ، عملوا على تحقيق ذلك. وخلال خمسة وثلاثين عاما، من عمر الاحتلال الصهيوني، صودرت الأراضي، وبنيت عشرات المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية والقدس، وتآكلت مساحتهما، حيث اغتصب أكثر من 55% من تلك الأراضي في صيغة مستوطنات وجدران عازلة ومعابر. وقبيل العدوان بأيام قليلة، وافقت حكومة العدو على بناء 850 وحدة سكنية جديدة للمستوطنين اليهود، في مدينة نابلس.
هذه القراءة تصل بنا إلى أهداف العدوان. هدفه الأول، هو توجيه الأنظار نحو قطاع غزة، بالعدوان الوحشي عليه. فحيث تسيل الدماء غزيرة، يتوقف الكلام، وإليه تتجه البوصلة، في الوقت الذي تتسارع فيه عملية التهويد في القدس، والضفة الغربية، في ظل صمت عربي ودولي مطبق. تهويد منهجي وحثيث لن يستكمل إلا بتحقيق الاندماج الشامل للضفة والقدس بالكيان الغاصب، بينما الأنظار موجهة نحو تدمير البنية التحية للقطاع، وهدم البيوت وقتل القادة المقاومين، والمدنيين العزل.
الهدف الثاني، وله صلة مباشرة بالهدف الأول. فما دام المشروع هو دمج الضفة والقدس، كليا ونهائيا بالكيان الصهيوني، فإن الطريق إلى ذلك هو بالضرورة، الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة، على أراضي الضفة والقدس الشريف، تتسق مع قرارات الأمم المتحدة، وحق الشعوب في تقرير المصير. إن العدوان يأتي قبل أيام معدودة من مشروع تقدم السلطة الفلسطينية، إلى الأمم المتحدة، بنيل عضوية غير كاملة للدولة الفلسطينية. ولا شك أن هذا العدوان، سيطغى على ما عداه من القضايا، بما يعطل مناقشة مشروع العضوية الفلسطينية، بالأمم المتحدة، وربما يؤجل طرحها إلى ما لا نهاية، بما يمكن الصهاينة من قضم البقية الباقية من الضفة والقدس، وبذلك لا يغلق الباب نهائيا على عروبة القدس، وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم فحسب، بل وأيضا على حق الفلسطينيين في دولة مستقلة فوق ترابهم الوطني.
في هذا السياق، ينبغي التنبه إلى أن موقف الصهاينة، بضرورة بقاء قطاع غزة، خارج دائرة الاندماج السياسي والاقتصادي، مع كيانهم، لا يعني أن يبقى القطاع مصدر إزعاج وتهديد لاستقرارهم. فالمطلوب هو أن يكون القطاع باستمرار أعزل من السلاح، وغير قادر على الدفاع عن نفسه. ولذلك يأتي العدوان، محاولة لاختبار قدرات القطاع، وتجريده من أي قدرة على مقاومة العدوان. ولذلك يمكن القول إن تجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها هدف رئيسي آخر من أهداف العدو.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، التنظير القائل، إن الدول، عندما تواجه بمشاكل داخلية تلجأ إلى توجيه أزماتها نحو الخارج. وقد شهد الكيان الغاصب خلال هذه السنة، مظاهرات غضب في معظم المدن والمستوطنات الصهيونية، احتجاجا على سوء الأوضاع الاقتصادية، فإن العدوان على غزة، من وجهة صناع القرار الإسرائيلي، سيسهم في إعادة اللحمة والتضامن، بين الصهاينة. إنه سيحقق، بنجاحه في تركيع المقاومة، هدفين رئيسيين: تصليب الوحدة بين الصهاينة، وبروز رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنجامين نتنياهو كبطل قومي، بما يضمن فوزه في المعركة الانتخابية القادمة.
وتبقى أمام العدو هدف آخر، هو مهمة اختبار الموقفين الرسمي والشعبي العربيين، بعد الأحداث التي تعرف بـ "الربيع العربي، وفي مقدمتها، موقف الحكومة المصريةـ تجاه العدوان على أهلنا في غزة. هل ستواصل حكومة مصر الجديدة التزامها بمعاهدة كامب ديفيد، وتواصل النأي بنفسها عن الأمن القومي العربي، أم أن هناك مناخا جديدا لا يمكن للقيادة المصرية أن تتجاوزه، وهي تتخذ القرارات في هذه اللحظات المصيرية من تاريخ الأمة. هل ستتحقق أهداف العدو الصهيوني من حرب الإبادة على غزة؟ سؤال ستتكفل نتائج مقاومة أهلنا في القطاع بالإجابة عليه، وما علينا سوى الانتظار.