في الأسبوع الماضي اعترضت بعض شركات صناعة الألبان على قرار وزارة التجارة والصناعة القاضي بضرورة العودة لأسعارها السابقة لدى بيع منتجاتها في السوق السعودي، بل اعتقد البعض أن هذا القرار يعتبر تدخلا خاطئا في مسار التجارة الحرة ويتعارض مع أبسط مبادئ وقواعد اقتصاد السوق التي التزمت بها المملكة في وثائق انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية.
في كتب الإدارة، التي يتم تدريسها لطلبة المرحلة الثانوية بمعظم الدول المتقدمة والنامية، ورد تعريف اقتصاد السوق على أنه الاعتماد على قوى العرض والطلب لتحقيق التوازن في السوق، من خلال تحديد وجهة المتغيرات الاقتصادية الرئيسة، كمستوى الإنتاج والأسعار والعرض والطلب، دون أن يكون هنالك أي تدخل يعيق حركة قوى السوق أو يؤثر فيها. وفي كتب مبادئ الاقتصاد، التي يتم تدريسها لطلبة المرحلة الجامعية بمختلف الدول الرأسمالية والاشتراكية، وردت المبادئ الأساسية التي يجب توفرها لتحقيق اقتصاد السوق، ومن أهمها: المنافسة الكاملة للأنشطة الاقتصادية الاستهلاكية أو الإنتاجية، وحرية الدخول إلى السوق والخروج منه دون أي قيود أو تدخلات طبيعية أو إجرائية، وحرية انتقال عناصر الإنتاج بين صناعات وقطاعات الاقتصاد المختلفة، وتجانس السلع والخدمات المعروضة في السوق، إضافة إلى قدرة الأنشطة الاقتصادية في الحصول على كل المعلومات المتعلقة بالسوق دون تمييز.
مما سبق يتضح أن سيادة مبدأ المنافسة الكاملة في السوق يتطلب حرية التملك ومنع تدخل أي جهة أو فرض أي قيود من شأنها أن تؤثر في قوى العرض والطلب، وعلى مستوى الأسعار السائدة في السوق. إلا أن مبدأ الحرية الاقتصادية، الذي يقصد به حرية الأنشطة الإنتاجية في اتخاذ القرار المناسب وفقا لمعطيات السوق، يجب ألا يكون مطلقا دون تنظيم، بل يجب أن يكون وفقا لقواعد وحدود إجرائية لتحقيق المصالح العامة والخاصة مجتمعة. وهذا لا يتعارض مع مبدأ حرية الملكية الفردية، التي تعتمد على حرية تملك الأفراد لكل أدوات الإنتاج المختلفة وعناصره من دون قيود كمية أو نوعية، بل تدعم أدوات تنظيم السوق وتعد من ضروريات سياسة قوى العرض والطلب، التي تحكم النشاط الاقتصادي.
نشأت ضرورة تنظيم السوق بعد أزمة الكساد الكبير عام 1929، والتي أكدت على أن مبدأ اقتصاد السوق لا يصلح كآلية كاملة دون تنظيم الحياة الاقتصادية. تدخل الدولة في الاقتصاد أصبح ضرورة ملحة كما أثبتتها نظرية الرأسمالي "اللورد ميلر كينز"، ومثلت في حينها انتهاكا لقدسية عدم التدخل، التي تعتمد عليها حرية التجارة الكلاسيكية.
بعد الحرب العالمية الثانية، اشتدت فكرة تدخل الدولة في اقتصاد السوق لأغراض اجتماعية، لخشية الدول الرأسمالية من الجاذبية الفكرية للدولة الاشتراكية التي قدمت أنموذجا فريدا للخدمات المجانية. في اليابان تم إلزام بعض الشركات بإجراء عقود لتثبيت العمال مدى الحياة، وفي ألمانيا تم اعتبار هذا الإجراء بمثابة تفاهم بين أرباب العمل والنقابات حول الأجور والتدريب. أما الدول الإسكندنافية، فقد كانت منافسا حقيقيا للدول الاشتراكية فيما يخص المشاركة الواسعة للمكتسبات الاجتماعية.
بعد صدمة كارثة الأسواق العقارية التي منيت بها الدول الرأسمالية في أواخر عام 2008، وما تبعها من تباطؤ اقتصاديات الدول المتقدمة وخسائر دول الاتحاد الأوروبي وانجراف أميركا نحو الهاوية المالية، اتضح أن النظام المالي العالمي غير قادر على الالتزام بمبادئ اقتصاد السوق وحرية التجارة إلا إذا قامت الدول بالتدخل الفوري لإعادة هيكلة النظام وتقنين قواعده منعا لتكرر مثل هذه الكوارث مستقبلا.
أما بالنسبة لالتزامات المملكة في منظمة التجارة العالمية، فلقد أكدت الفقرة الخاصة بسياسات التسعير الواردة في وثائق الانضمام، بأن للمملكة حق تحديد بعض أسعار السلع والخدمات في كافة القطاعات بهدف المحافظة على استقرار الأسعار، وتأمين احتياجات المستهلكين ورفاهيتهم والحفاظ على مصالحهم الاجتماعية المهمة. في هذا الصدد التزمت المملكة بتطبيق لوائح الأسعار على أساس غير تمييزي، بغض النظر عما إذا كانت الخدمة أو السلعة مقدمة من الحكومة أو من القطاع الخاص، وبغض النظر عن جنسية المورّد. ولعل أهم هذه الإجراءات اتخذت لدى تسعير المنتجات الصيدلانية وأرباحها في المملكة، من خلال نظام الصيدلة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/18 وتاريخ 18/ 3/ 1398هـ، القاضي بضرورة الالتزام بقواعد تسجيل المنتجات وتسعير العقاقير قبل بيعها في صيدليات البيع بالجملة والتجزئة. وبموجب هذا المرسوم الملكي، سمح لبائعي الجملة وبائعي التجزئة للمنتجات الصيدلانية بهامش ربح نسبته 10% أو 15% أو 20%. كما أكدت المملكة بأن أسعار السلع والخدمات المحددة تخضع لتسعيرة الدولة والرقابة على الربح، وأن المملكة ستطبق بدءا من تاريخ انضمامها في نهاية عام 2005 لوائح الأسعار وضوابط الأرباح الخاصة بها بطريقة تنسجم وقواعد التجارة العالمية، مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأعضاء المصدرين في المنظمة كما هو منصوص عليه في المادة 9 من اتفاقية (الجات)، الخاصة بتجارة السلع، والمادة 8 من اتفاقية (الجاتس)، الخاصة بتجارة الخدمات، مع ضرورة نشر ضوابط أسعار وأرباح السلع والخدمات في الصحيفة الرسمية "أم القرى"، أو في أي إصدار رسمي آخر أو موقع إلكتروني يمكن للجمهور الاطلاع إليه.
اقتصاد السوق لا يعتمد فقط على حرية التجارة وقوى العرض والطلب، بل يتطلب من الدولة تنظيم السوق وتوظيف قواعد وأحكام المنافسة العادلة، لتحقيق أهم عناصر التوازن في العدالة الاجتماعية لكافة المستهلكين.