نحن تعبنا أخي العزيز، داود الشريان، وأنت تنكأ الجراح ما قبل البارحة في عذابات طفلين يدفعان - بكل ضراوة وبكل وطأة الألم الإنساني - ذلك الخطأ البشري المخيف الذي رمى بكليهما في أحضان العائلة المختلفة. وحين استمعت للطفل التركي يهتف بالدموع من بعد إلى أبيه (المحلي) ثم يقول بلهجتنا وصوتنا (أنت أبي) بكيت معه وتذكرت كل شيء: برد الصقيع المخيف في ثلوج الأناضول على عظام طفل نجراني، كآبة المساء الطويل البارد المظلم على ما تبقى من طفل مشتت الهوية، وقع الغربة المؤلمة القاسية وهو يتحسس بكل العبث ملامح العيون الغائبة عنه. طفل، بلا حول، بلا قرار يبحث عن آلاف الصور التي لن تعود. هربت، مباشرة، بعد أن استمعت لصوته من الجملة الأولى فأنا لا أستطيع أن أحيا كل عذاب الجملة التالية، عدت لمنزلي بعيد منتصف المساء. دخلت إلى سرير (خلدوننا) الصغير وهو نائم في فراشه وعار في هذا البرد القارس بلا لحاف، جمعت أطرافه (متكورا) مثل عصفور في باطن كف، يأخذني الخيال المخيف إليه: ماذا لو استيقظ هذا (الخلدون) في الصباح القارس ثم اكتشف أنه المشرد الضائع التائه في قلب جبال الأناضول؟. ماذا لو أدرك هذا الصغير الضعيف عند الصباح أن أمه قد رحلت من أحداق عينيه إلى الأبد؟. ماذا لو أدرك هذا الطفل تلك الحقيقة القاسية أن مشاغباته مع (محمد) باتت بحجم المسافة الزمنية ما بين الدنيا والآخرة؟.

ما الذي سيكون عليه هذا الطفل لو أنه يعلم أننا سنبدل له عينيه، عواطفه، إخوانه وأختيه، سريره وحتى بطانيته؟.

كل الصور التي اختزلها في ألبوم الذاكرة، كل الحب وكل العطف، كل الكلمات وكل اللغة، كل ضحكة ماتت للأبد وكل دمعة ساخنة لكل القادم من سويعات كل ما هو قادم إليه في هذه الحياة. بكيت على (خلدون) نيابة عن كل ما هو قاس مؤلم مخيف. دعونا الآن نفكر ما الذي يمكن أن نفعله لوقف هذه المأساة؟. ما الذي نستطيع أن نفعله لطفلين من دمنا ومن ديننا ومن صلب أخطائنا كي يقف في عيونهما هذا الشلال الهادر من الدموع؟