هذه المرة من جدة، في مستشفى باقدو والدكتور عرفان، حيث تمت معالجة الطفل (صلاح الدين يوسف عبداللطيف) بشكل خاطئ يشبه الكوميديا السوداء حتى الوفاة، بعد أن أجريت عملية -كان يُعتقد أنها بسيطة- لأخذ عينة من الغدة اللمفاوية، في غرفة اتضح لاحقاً أنها غرفة أشعة غير مهيأة طبياً للعمليات التي يتم فيها التخدير بشكل كامل. وارتكز الخطأ على عدة أخطاء، وذلك بسبب إعطاء الطفل جرعة نيتروجين بدلاً من الأكسجين، وعند اكتشاف الخطأ - بعد مرور ربع ساعة - تدهورت حالة الطفل فهبَّ الطبيب المسؤول عن العملية بالبحث عن أجهزة إنعاش للقلب، ونظراً لعدم تواجد فني التخدير في تلك اللحظة تم استدعاء شخص غير مختص إلى غرفة الأشعة، مما تسبب أخيراً في توقف قلب الطفل ووفاته دماغياً، بحسب إفادة والد الطفل ووالدته، ولم ينته الخبر عند هذا الحد الكارثي، إنما تجاوزه إلى حدثين كارثيين أيضاً، وهما هروب الطبيب بعد وقوع الحادثة، وتبديل الملف الطبي للطفل صلاح الدين (عكاظ: 16 نوفمبر 2012).

مازلنا في الدوامة نفسها، حيث تمثل الأخطاء الطبيبة حالات قاتلة في مستشفياتنا بقطاعيها الحكومي والخاص، وخاصة أن بعض الأطباء الوافدين يستطيعون الهروب كما هي حالة الطبيب المذكور، وكأن هذا الطبيب وأمثاله أتوا إلينا ليتعلموا أصول المهنة بأرواح أبنائنا ثم يهربوا!

قد يعود المواطن بذاكرته إلى مستشفى قام بمراجعته أو خطأ طبي ارتكب بحقه، ليجد أن هناك الكثير من الأطباء الوافدين غير مؤهلين. والشيء الذي لا أستطيع أن أفهمه هو تعاقد المستشفيات - سواء كانت حكومية أو خاصة - مع أطباء يتم اكتشافهم من جلسة واحدة بأنهم لا يمتون للطب بصلة!

لكن الغريب هو أن مثل هذه المراكز الطبية تستمر في عملها وكأن شيئاً لم يكن، وهذا ما يجعل المواطن يفقد ثقته في جدوى المقاضاة والمحاسبة، في ظل سوء الخدمات ونوعية الأخطاء المعلنة وغير المعلنة التي تحدث نتيجة تقصير إداري أو أخلاقي أو مهني.

والمواطن يعلم تماماً أن الأخطاء الطبية ربما تحدث في أعرق وأهم المستشفيات والمراكز الطبية حول العالم، لكنه يعي أيضاً أن هذه الأخطاء هي نتيجة إهمال وعدم إحساس بالإنسان وحقوقه. ومثل هذه الأخطاء المميتة تشبة القتل بدم بارد، كما هو الحال في قضية الطفل صلاح الدين، وكم من قضية غيرها لم تبرز إلى الصحافة، حيث يذهب المريض على قدميه لمراجعة المستشفى فيعود جثة هامدةّ!

ومع الأسف الشديد هناك حقيقة مرة مفادها أن بلادنا بحاجة إلى كوادر، ولكن ليس أي كوادر، إنما كوادر وطنية محترفة ومدربة ومؤهلة علمياً وفنياً، لأن الصحة قطاع حيوي يحتاج إلى أن يكون دوماً تحت دائرة الضوء، وتكون المحاسبة فيه صارمة نتيجة لارتباطه بحياة الإنسان، فالأخطاء البسيطة قاتلة، إذ تسهم بإزهاق روح إنسان أو إعاقة دائمة، أو ألم جسدي أو نفسي يرافق المريض مدى حياته. وهذه الأمور لا يجوز التسامح بشأنها من الجهة المسؤولة أو الفرد المتسبب بها.

وفي ظل الحاجة للكوادر الطبية، هناك اتجاه عام من قبل المؤسسات الصحية للاتجاه إلى دول عربية وآسيوية معينة للتعاقد مع الأطباء بوجه خاص، وأحياناً حين يقابل المواطن طبيباً يستغرب وجوده في هذا المكان أو ذاك، فبعضهم غير مؤهل مهنياً ونفسياً للتعامل مع المرضى، وكأن الهدف في مسألة التعاقد هو سعر السلعة، وهذا ما يجعل المواطن لا يلمس تطور الخدمات الصحية في بعض الأماكن، رغم أن الدولة تنفق ميزانيات ضخمة وصلت قيمتها المليارات. أما بالنسبة للقطاع الخاص، ففي كثير من المستشفيات والمراكز الصحية يكون الهدف مادياً بحتاً بغض النظر عما تؤول إليه حال المريض، دون وجود رقابة إدارية من إدارة المركز أو المستشفى أو كذلك الإدارات العامة للشؤون الصحية في المناطق، وهذا الأمر بحاجة إلى إعادة الهيكلة والوسائل الرقابية من جهة، وفحص المؤهلات والشهادات الطبية لكثير من الأطباء والفنيين المتعاقدين من جهة أخرى.

وكما حصل في قصة الطفل صلاح الدين، يتم التهاون ببعض العمليات لدرجة إجرائها في أماكن غير مخصصة إطلاقاًَ، وهذا الأمر يعود بالدرجة الأولى لعدم وعي الطبيب أو إهماله أو عدم تأهيله، مما يجعل الأمر مرتبطا بالدرجة الأولى بالطبيب والطاقم الفني، والإدارة المكلفة بالرقابة الطبية، للتعامل مع حالات المرضى بطريقة حذرة واحترازية مهما كان الأمر بسيطاً، مع اتخاذ كافة التدابير والاحتياطات. أما هروب الطبيب المسؤول عن حالة الطفل صلاح الدين فهو جريمة أخرى تخالف كل أخلاقيات الطب والإقرار بالمسؤولية، مما قد يحول القضية إلى ما يشبه قضية القتل، وفي كل الحالات تكون المسؤولية مشتركة بين أطراف عديدة من بينها الطبيب والطاقم الطبي المعالج، وإدارة المستشفى، والشركة المسؤولة عن الأجهزة الطبية وتركيبها وصيانتها... الصبر لوالديّ صلاح الدين، فمهما كانت العقوبة فلن تعيد إليهما طفلهما الذي رحل!