نشر مركز الدراسات الأمنية في زيورخ مؤخرا ورقة تناقش الرؤية الإسرائيلية تجاه الربيع العربي، تشير إلى أنه في الوقت الذي يرى فيه غالبية الإسرائيليين أن تأثيرات الربيع العربي على إسرائيل ستكون سلبية فإن المعضلة التي يواجهها الإسرائيليون هي كيفية التعامل مع التغيرات التي تحيط بهم. أحد أكبر التحديات التي تواجه إسرائيل بعد الربيع العربي، هو وضع الولايات المتحدة في المنطقة. الربيع العربي بلا شك سيعيد تعريف وضع الولايات المتحدة في المنطقة والتي ستجد نفسها مع الوقت مرغمة على التعامل بمزيد من المساواة بين إسرائيل وعدد من جيرانها العرب، وتجنب إغضاب "الشارع العربي" على العكس من فترة ما قبل الثورات العربية. هذا الأمر بمثابة كابوس لإسرائيل التي تحاول اللعب على وتر "الإرهاب" العائد للمنطقة، بالطبع يساعدها في ذلك دون وعي موقف وأفعال عدد من "الحركات الإسلامية" في المنطقة والتي تضيع فرصة تاريخية اليوم.
جورج فريدمان رئيس مركز ستراتفور في مقالة مهمة له بعنوان: "الأزمة الإسرائيلية" يشير إلى أن إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام أزمة طويلة المدى بسبب الواقع الجديد في المنطقة والذي يقوض من قوتها، وجوهر الأزمة الإسرائيلية ـ كما يشير ـ هو كيفية قيام إسرائيل بالحفاظ على قوتها في هذا الواقع الاستراتيجي الجديد.
من المنظور الاستراتيجي، تجد إسرائيل اليوم نفسها محاطة بالتهديدات من كل جانب، جنوبا انتهت فترة الأمان الاستراتيجي مع مصر، والوضع في الأردن ولبنان مقلق لها، إضافة لأزمتها مع إيران وكيفية التعامل معها، ثم هناك الوضع في سورية والذي يشكل في حد ذاته معضلة تكشف حجم الأزمة الإسرائيلية. رغم أن إسرائيل كانت تتمنى بقاء الأسد في سورية لأسباب متعددة، إلا أنها تظل غير قادرة على دعمه مباشرة والسير في اتجاه معاكس لتوجه الولايات المتحدة حيال هذا الملف، في المقابل تظل أيضا غير قادرة على الترحيب بالقوة الجديدة في سورية، والتي بالتأكيد لها موقف واضح ضد إسرائيل. هذه المعضلة التي تظهر عدم قدرة إسرائيل على تحديد التهديد الذي تواجهه بوضوح إضافة لعدم وضوح ما يمكن أن تقوم به هما ما أشار لهما فريدمان بذكاء عندما أشار إلى أن إسرائيل تواجه "انغلاقا استراتيجيا" strategic lockdown.
داخليا، تواجه إسرائيل معضلة أخرى تتلخص في غياب القيادة، ربما كان شيمون بيريز (رئيس إسرائيل الحالي) وأرييل شارون آخر القادة الإسرائيليين القادرين على تجاوز معضلات الخلاف الداخلي وإظهار قوة دافعة لتحريك السياسة الإسرائيلية في اتجاه مصالح إسرائيل. القيادة الإسرائيلية اليوم أكثر تخبطا وخلافا وصراعا فيما بينها، يضاف لذلك انقسام كبير وحاد داخل إسرائيل نفسها بين التيارات الليبرالية والدينية. تحالف نتنياهو (رئيس حزب الليكود ذي المرجعية اليمينية) مع شاؤول موفاز (رئيس حزب كاديما ذي مرجعية يسار الوسط) والذي استمر لمدة 70 يوما فقط منتصف هذا العام انهار بسبب خلاف بين الحزبين على قانون التجنيد العام في إسرائيل، حيث أصر "كاديما" على إقرار تجنيد الشباب اليهود الأرثوذكس (المتشددين) والذين يستثنيهم القانون من التجنيد لأسباب دينية. تحالف نتنياهو مرة أخرى مع حزب إسرائيل بيتنا الذي يقوده وزير الخارجية المتشدد أفيجدور ليبرمان في الانتخابات البرلمانية القادمة 2013، ودعوة تسيبي ليفني وعدد من قادة حزب كاديما السابقين لشيمون بيريز (89 عاما) للترشح كرئيس حزب في الانتخابات القادمة طمعا في توليه منصب رئيس الوزراء؛ كلها دلائل على معضلة القيادة في إسرائيل اليوم وتخبطها.
داخل إسرائيل اليوم يوجد توجهان في قراءة الربيع العربي، أولا: هناك توجه اليسار الليبرالي المنتشر بين عدد من الأكاديميين والمثقفين والذي يرى الربيع العربي من منظور كونه "فرصة" يجب عدم تفويتها في تحقيق تقدم مع العرب وإحلال السلام بشكل دائم. ربما أفضل ما يعبر عن هذا التوجه هو مقال لنمرود جورين في جريدة هآرتز بتاريخ 4/9/2012 بعنوان: "نماذج جديدة، أصوات جديدة في شرق أوسط جديد" New paradigms, new voices in a new Middle East على أن مثل هذا التوجه يظل نخبوياً ومحدودا بشكل كبير. ثانيا: هناك التوجه العام والمترسخ بشكل أساس في القيادة السياسية الإسرائيلية والذي يرى الربيع العربي من منظور كونه "تهديدا" يجب درؤه. يصور أصحاب هذا التوجه كل تهديد لإسرائيل على أنه تهديد "وجودي" existential مما يخلق حجم مناورة ضعيفا جدا لإسرائيل على الصعيد السياسي. وعلى العكس من الولايات المتحدة التي تعيد تعريف وضعها في الشرق الأوسط بناء على تغير موازين القوة فيه، تجد القيادة الإسرائيلية خطرا كبيرا عليها في انخفاض الغطاء الأميركي الذي تتمتع به، وهو ما ظهر جليا في محاولاتها الأخيرة بخصوص إيران وجر الولايات المتحدة في حرب معها. هنا لا يصبح فقط ميل أميركا نحو العرب تهديدا لإسرائيل، بل مجرد محاولة الولايات المتحدة الموازنة بينها وبين العرب بمثابة تهديد وجودي لها.
باتريك تايلر في كتابه المهم حول إسرائيل بعنوان: "قلعة إسرائيل" Fortress Israel يناقش كيف أن غالبية قيادة إسرائيل (بدءا من الجيل الثاني بداية السبعينات) تأتي من خلفية عسكرية، وهو الأمر الذي حكم توجهات ورؤية إسرائيل وكيفية تعاملها مع الأمور. قانون الأداة الشهير لآبراهام ماسلو ينطبق هنا على إسرائيل بشكل كبير حيث يقول ماسلو: "إذا كانت الأداة الوحيدة التي تملكها هي مطرقة، فكل مشكلة ستبدو وكأنها مسمار". إسرائيل التي تعتمد وجوديا على الولايات المتحدة مخنوقة في هامش مناورة ضيق وضعت نفسها فيه، بينما الولايات المتحدة تعيد تعريف هوامش مناوراتها في المنطقة بشكل جذري، ليس بالضرورة بالابتعاد عن إسرائيل ولكن ليس بالضرورة من خلال المنظور الإسرائيلي فقط.
باتريك تايلر في كتابه يقتبس مقولة للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون يقول فيها إن نتنياهو: "يعتقد أنه قوة عظمى وأننا (الولايات المتحدة) هنا لعمل ما يريده هو". هذه مقولة توضح حقيقة أين تكمن القوة، فالتصور أن إسرائيل أو اللوبي اليهودي هو المتحكم الرئيس في صنع الموقف والسياسة الأميركية هو تصور قاصر. للرئيس الأميركي السابق هاري ترومان مقولة شهيرة كان يضعها على لوحة أمام مكتبه the buck stops here أي إن "سلسلة المسؤولية تتوقف هنا عنده" في إشارة لمن هو المسؤول الأول والأعلى، وهو ما ينطبق هنا على علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل.
للحديث بقية.