في المقالة السابقة (نظرية روبن هود) تحدثت عن قيم جديدة بدأت تعشش في الدهاليز الفكرية لشبابنا (الوطن: 19 يوليو 2010م). المقالة باختصار تتحدث عن فكر جديد يقضي بضرورة اقتناص أي فرصة سانحة للسطو على حقوق الغير ثم التفكير لا حقا في تسديد ما سطوا عليه في هيئة مشاريع خيرية للفقراء والمساكين أملا في تكفير أخطائهم. من هذه العبارة يتضح للقارىء الكريم أن من يقوم بعملية السطو يعلم أنه يرتكب إثما.. رغم ذلك، يرتكب هذا الذنب وهو يشعر بأنه مجبر على فعله. واستجابة لاستفسار أحد القراء عن الدافع الذي يدفع شخصا ما لدخول هذا الطريق الآثم وهو يعلم أنه طريق آثم.. من خلال تخصصي في السلوك التنظيمي وخبرتي المتواضعة في العمل الحكومي موظفا وفي التدريس الجامعي وتقديم الاستشارات لمؤسسات القطاع الخاص، أستطيع القول إن مجمل المتغيرات من حولنا لا يدفعنا إلى التمسك بالنزاهة، بل إلى النفور منها. ولكي أوضح فأقول إن ابتعاد المجتمع عن جادة الحق وتبدل القيم الواضح للجميع قد أفرز فئة من هذا المجتمع لديها كل الشجاعة للخروج عن المعايير والأنظمة والأعراف السائدة وأسهم في استغلال الوظيفة وانتشار الرشوة والاختلاس. وهنا لا بد من الإقرار بأننا تحت وطأة "بيئة معولمة" كثر فيها الفساد في البر والبحر. ومعظم الفساد لدينا، في نظري، هو "فساد هجين" تكالبت فيه قوى العولمة بكل جوانبها.. الاقتصادية والاجتماعية مع بيئتنا وخصائصنا المحلية والتي لم تكن جاهزة بما فيه الكفاية لاستقبال هذا الكم من التغيرات الخارجية، مما تسبب في تفشي السلوكيات السلبية والأفكار المنحرفة بيننا فسقطت خصائصنا وسادت في المجتمع بيئة جديدة وقيم غربية مستحدثة تمجد "الفرد" لا "الجماعة"، ضاربة عرض الحائط بقيم طالما كانت تشد عضد هذا المجتمع في أيامه البيضاء والسوداء.
ولأن الإنسان، وبصفة عامة، لديه قدرة عجيبة على التأقلم مع مختلف البيئات، ولأننا لم نكن جاهزين لهذا "الزحف العولمي" فقد تصرف كثير من أفراد المجتمع بتلقائية فامتزجت قيم أفراده التي تركز على "الجماعة" بقيم "عولمية" تركز على "الفرد" مما أنتج قيما وتوجهات دخيلة لا يمانع الكثير من معتنقيها من استغلال الوظيفة لتحقيق المكاسب الشخصية رغم يقينه بأنه يرتكب إثما ويمكنه أن يستغفر ربه لاحقا. جانب من هذا التوجه يشير إلى أن هناك بقايا صلاح متجذرة داخل هؤلاء الشباب بينما يثير هذا التوجه القلق نحو البقية الباقية من شبابنا وإلى متى يمكن لهم أن يصمدوا في وجه الفكر العولمي الجارف.
ولأن شبابنا هم جدار دفاع هذه الأمـة فإن رصد الظواهر المستجدة يعتـبر من أفضـل السبـل يليه وضع البرامج والخطط التي تكفل تحجيـم هـذه الظواهر والتقليل من آثارها السلبية التي أكاد أجزم أنهـا مدمرة لقيمنا. وقد بدأنا بالفعل نشاهد فقدنا لكثير منها. يكفي أن نفتح صحفنا المحلية لتنبئنا بالكثير مما لم يدر بخلدنا. أخبار عن فساد كبار وصغار الموظفين، أخبار الاعتداء على المال العام والتحقيق مع أشخاص، أخبار عن فساد المكلفين بمعاقبة الفاسدين، أخبار عن شيوع الواسطة وتمكين بعض أنصاف الكفاءات من الطفيليين من مواقع إدارية متميزة أكبر من طاقاتهم، أخبار عن فشل أجهزة حكومية في القضاء على بعض الإشكالات المزمنة والمناطة بها.
مثل هذه الأخبار وعدم رؤية عقوبات على أرض الواقع بشكل شامل لا يسهمان إلا في خلق حالة من اختلال منظومة القيم والإحباط الشديد، مما يجعلنا أمام إفراز جديد يتمثل في التأثير السلبي لانتشار الفساد ويعطي إشارات لشبابنا بأنهم يعيشون في أمة غير متحضرة بليدة الإحساس، مما قد يدفع لظهور جيل من الشباب يرى الظلام يحيط به ويجعله ناقما على كل ما حوله، لا هم له إلا الارتقاء بوضعه وتحسينه بأي شكل من الأشكال، حتى لو كان ذلك على حساب إهدار كرامته، وإلا فما تفسير نبرة الحسرة التي نستشفها في حديث بعض الأشخاص. يتحدثون بنقمة على من يستغل سلطته ويتحسرون لأنهم ليسوا في مواقعهم. إن بيئة كهذه لا يمكن أن تولد إلا الخوف من آلام الفقر والعوز الكافر. الفقر مصيبة كبرى ووصمة عار في جبين كل المجتمعات وهو مقدمة لكل أنواع الفساد المجتمعي.